ها نحن نعبُر النصف الثاني من العقد الثاني للانقلاب الذي قامت به حركة حماس على الشرعية الفلسطينية، وكرّست في ضوء النتائج التي تمخّضت عنه الانقسام الذي عانينا ويلاته ولا نزال.
قبل عدّة شهور فقط، وبعد مرور كل هذه السنين التي مرّت على مأساة الانقلاب والانقسام كتبتُ من على صفحات «الأيام» أنّ الانقسام ليس فعلة فلسطينية «خالصة»، وأنّ إسرائيل لعبت دوراً محوريّاً في التمهيد له والتخطيط «لإنجاحه»، وأشرفت على مراحل تنفيذه، وراقبت نتائجه، وأنها ــ أي إسرائيل ــ صاحبة المصلحة الأولى في تكريسه، بل وتأييده إذا تسنّى لها ذلك.
وبالعودة إلى الوقائع الإسرائيلية يمكننا تسجيل ثلاثة معالم بارزة على هذا الصعيد:
المَعْلَم الأوّل، هو «التفسير» الذي أعطاه أرئيل شارون في جلسات عُقدت لهذا الشأن (شأن «الانسحاب» من قطاع غزة)، والذي أوضح فيها أنّ هذا «الانسحاب» سيؤدي من بين كلّ ما سيؤدي إليه إلى «حلّ» جزء مهم من المشكلة الديمغرافية، وذلك بفصل حوالى مليونين من الفلسطينيين عن السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، بل وحتى عن الفلسطينيين في «الشتات»، وذلك نظراً لعدم وجود سياسة مماثلة لسياسة الجسور المفتوحة مع مصر كما هو حال هذه السياسة مع الأردن.
ويُروى عن شارون أنه قد «استبشر» خيراً في هذا الانقلاب، لأنّه سيؤدي إلى انقسام سياسي يزلزل الكيانية الوطنية للشعب الفلسطيني، ويُحدِث شرخاً قاتلاً في الجسد الوطني.
هنا يمكننا مباشرة الانتقال إلى المَعْلَم الثاني، وهو المَعْلَم الذي عبّر عنه شمعون بيريس حينما قال في مقابلة صحافية منشورة بمناسبة مرور الذكرى السبعين على قيام إسرائيل، قال إن أهمّ ثلاثة أحداث مرّ بها ــ كسياسي مخضرم ــ كانت؛ قيام دولة إسرائيل، والانتصار الساحق في حرب حزيران 1967، والانقسام الفلسطيني بعد انقلاب «حماس».
أمّا المَعْلَم الثالث، فهو ماثل أمامنا بكل وضوح، حيث إنّ نتنياهو يرى في حُكم «حماس» الانفرادي، والانقسامي لقطاع غزة مصلحة إسرائيلية حيوية، مباشرة وإستراتيجية، وهو يعمل ــ أي نتنياهو ــ على تكريس هذا الواقع، وهو معنيّ بهذا الحكم وبقائه وتكريسه لأنه يُبعثر ويشتّت الوحدة السياسية، والكيانية، ووحدة التمثيل الوطني، ويبدّد مشروع قيام الدولة الفلسطينية، وذلك انطلاقاً من أنّ الهدف الصهيوني المباشر هو السيطرة على الضفة، وحسم «مسألة» القدس، وتحويل القضية الفلسطينية إلى احتياجات اقتصادية مجرّدة عن أيّ أبعادٍ سياسية ووطنية، وهو ما يتطلّب تصفية وحدة التمثيل الفلسطيني، والقضاء على أيّ محتوى وطني وسياسي للكيانية الفلسطينية.
تضافرت الجهود الإسرائيلية على هذا الصعيد مع «الأطماع» الإقليمية، وخصوصاً مساعي «جماعات الإخوان المسلمين»، والتي كانت تتوثّب للانقضاض على السلطة في كامل منطقة الإقليم، وكانت دول عربية وإقليمية على استعداد لدعم هذا «التوجّه» والذهاب فيه إلى أبعد الحدود.
في أغلب الظنّ أن «حماس» تدارست هذا الأمر مع «جماعات الإخوان» في كل من مصر والأردن، وقد تدارسته مع أوساط عليا في البلدان العربية والإقليمية التي كانت تدعم هذا التوجّه، أو أنها ــ أي «حماس» ــ تشاورت مع هذه الأطراف على أقلّ تقدير.
لم يكن لينجح هذا الانقلاب لولا أنّ رائحة «السلطة» كانت في صلب توجّهات «حماس»، ولولا أنّ نمط أداء السلطة عموماً، وهذا النمط من الأداء في القطاع تحديداً كان عاملاً محفّزاً على هذا الانقلاب، ومسهّلاً للإقدام على القيام به.
بهذا المعنى بالذات فإنّ الانقلاب لم يكن فعلة فلسطينية خالصة، وإنّما محصّلة لجملة من تقاطع المصالح بين المخطّطات الإسرائيلية، والأطماع الحزبية الخاصة بـ «جماعات الإخوان»، وطموحات بعض دول الإقليم في ظلّ أوضاع داخلية فلسطينية تميّزت بسوء وفوضى الإدارة والأداء.
ولهذا فقد وجدتني أكتب قبل عدّة شهور أن الانقسام لن ينتهي إلّا إذا فرضت الوقائع والتطورات الإسرائيلية، وكذلك تلك الإقليمية من المعطيات ما يجعل هذا الانقسام عبئاً مادياً أو أمنياً أو حتى سياسياً على هذه الأطراف، وهذه التطورات سواء تعلّق الأمر بالأزمة الطاحنة التي تعصف بدولة الاحتلال، أو تلك التطورات التي بات يشهدها الإقليم، هي التي حدت بي إلى إبداء جرعة من التفاؤل للمرّة الأولى منذ الانقلاب وحتى يومنا هذا.
أمّا الأدلة، والتي ليس بعدها أدلة على أن هذا الانقلاب ليس فعلة فلسطينية خالصة، وأن فعل «العامل» الفلسطيني فيه كان يتعمّق ويعمّق الانقلاب بفعل تعمّق وتعميق الدور الإسرائيلي والإقليمي فيه، وانجرار العامل الفلسطيني والتوغّل في أهداف ومخططات تلك الأدوار.
هذه الأدلّة يلمسها الشعب الفلسطيني من خلال مظاهر الاستقطاب التي وصلت إلى حالة مرضيّة مستعصية، ومن خلال ازدياد هذا الاستقطاب يتم فعلياً تسرّب اليأس بأن هذا الانقسام قد تحوّل إلى انفصال من الناحية «الواقعية»، وأنّ لا أمل بأن يستعيد الشعب الفلسطيني وحدته السياسية التي تمكنه من مجابهة المخطط الصهيوني على أرضه والسطو على وطنه. والأزمة باتت في جانب مهم منها هي أزمة اليأس الشعبي من إمكانية استعادة الوحدة.
حالة اليأس هذه باتت أكبر مُعين لإسرائيل ولأصحاب الأجندات في كامل منطقة الإقليم، وباتت الساعد الأيمن لأهل الانقسام، وبات هذا اليأس هو الأرضية، والتربة الخصبة لتكريس الانقسام وتحوّله «الصاعق» إلى انفصال فعلي.
المراهنة الأساسية لأهل الانقسام هي بالضبط على حالة الاستقطاب والتي تكرس اليأس الذي هو الآن حصان الرهان الرابح الوحيد على بقاء الانقسام.
باختصار فإنّ الشعب الفلسطيني هو الوحيد القادر على إخراج مأساة الانقلاب من دائرة الأخطار التي يمثلها على الحقوق والأهداف الوطنية، وانتزاع هذا الانقسام من بين براثن الجهات التي تحمي هذا الانقسام، وتعمل ليل نهار من أجل أن يكون هو، وهو بالذات المعول الذي تستخدمه لتدمير كامل مشروعنا الوطني في التحرّر والاستقلال وتقرير مصير شعبنا على ترابه الوطني.
والأهمّ في هذا الإطار هو أنّ القوى السياسية التي هي جزء من حالة الاستقطاب، أو شريك فعلي أو مضارب في هذا الواقع لا يمكنها مطلقاً أن تقوى أو تبادر لإنهاء هذا الانقسام، لأنها بكل بساطة، وطالما أنها مستقطبة، وطالما أنها ليست من عداد الذين يتصدّون لهذا الانقسام، أو طالما أنهم جزء لا يتجزأ من حالة المحورة القائمة في الحالة الوطنية، وأن اهتمامها سيظلّ منصباً على مصالحها التي باتت ترتبط ارتباطاً عضوياً بسياسة المحورة، وسياسات الاصطفاف النابعة منها.
الحلّ الممكن الوحيد أمام شعبنا لإنهاء هذا الانقسام هو أن تقوم القوى الشعبية من خارج كامل قوس المحاور والاصطفافات بتنظيم نفسها لكي تسقط هذا الانقسام بقوة وإرادة الشارع الوطني الملتزم فقط بالأهداف الوطنية، والمنفصل بالكامل عن الحسابات الفئوية، والمصالح الذاتية، والذي يدرك ويعي المصالح الإسرائيلية والإقليمية التي تقف وراء الانقسام.
عشرات آلاف الكوادر الوطنية، الديمقراطية والتقدمية، صاحبة المصلحة في نسف منظومة الانقسام، والمستقلة والمخلصة هي الوحيدة التي تستطيع أن تضع هذا الانقسام في مأزق جديد بحيث لا يقوى على الاستمرار أو البقاء مستفيدة من قراءة واعية لعمق مأزق المشروع الصهيوني، ومن التحوّلات التي يشهدها عالم اليوم، وانعكاسات هذه التحوّلات على تطور الإقليم، والذي سيؤدّي حتماً لتطوّرات جديدة ستفقد هذا الانقسام أهميته، وربما كل مبرّرات وجوده واستمراره على قيد الحياة.
حالة اليأس بقدر ما تعكس ما وصل إليه المجتمع الفلسطيني من إحباط من كلّ أطروحات أهل الانقسام وأدواته، إلّا أنها تعكس بصورة غير مباشرة الاستعداد الكامل في التصدّي للانقسام إذا وجد هذا المجتمع قوى مدنية، منظمة ومخلصة، وقادرة على التصدي الواعي لهذه المهمّة العظيمة.
لم يعد خافياً أن إسقاط الانقسام بات هو مدخل إصلاح المنظمة، ومدخل دمقرطة الحياة السياسية الفلسطينية، وهو مدخل توفير الوسائل والأدوات القادرة على مقارعة الاحتلال وإحباط كلّ مشاريعه التصفوية.