انتشرت قبل أيام صور لطلبة من إحدى مدارس غزة وهم يمزقون كتبهم ودفاترهم إرباً، وصور لطلبة كوّموا دفاترهم وأوراقهم وأضرموا فيها النار، وذلك بعد أن أنهوا عامهم الدراسي.. وطبعاً هذا المشهد يتكرر كل سنة في معظم مدارسنا، ولكننا لم نفعل شيئاً حقيقياً تجاهه ولمعالجته حتى الآن!
يبدو للوهلة الأولى أن هذا تعبير من الطلبة عن فرحتهم بانتهاء العام الدراسي، لكن المشهد يحتمل أكثر من ذلك بكثير: هي صرخة مظلوم، ونوع من الاحتجاج، هي نشوة الخروج من السجن، هي تنفيس لمشاعر سلبية مكبوتة، وتفريغ لطاقات رهيبة مختزنة.. ولكن بطريقة تنم عن قلة في الوعي وخلل في التربية البيتية والمدرسية.
نعم، أغلبية طلبتنا يكرهون المدرسة، بدليل ما يفعلونه في كتبهم ودفاترهم في كل سنة! ويشعرون أن المدرسة عبارة عن سجن، بدليل أنهم يهربون منها، ويتوقون لأي عطلة، وينتظرون أي حجة لافتعال إضراب.. ولكن هذه نتيجة وليست سبباً.
هذه الظاهرة نتيجة لخلل فادح في المنظومة التربوية، ولتقصير في أداء الرسالة التعليمية، وبدلاً من إلقاء اللوم على الطلبة لنسأل أنفسنا: لماذا لا يحب الطلبة المدرسة (وكذلك المعلمون)؟ أليس غريباً أن النظام التعليمي فشل في غرس حب الكتاب لدى الطلبة؟ ولم يعلمهم أنَّ من يحرق كتاباً على استعداد أن يحرق إنساناً! فضلاً عن فشله في غرس قيم حب البيئة، والنظافة والسلوك الصحيح داخل وخارج المدرسة.. وهي من أساسيات المهارات الحياتية التي تدعي وزارة التربية الاهتمام بها.
من بين أسباب هذا الخلل: صعوبة الأوضاع الوظيفية والمعيشية للمعلمين، وتراجع الدافعية نحو مهنة التعليم، وتزايد معدلات الاحتراق الوظيفي (الشعور بالإجهاد والإحباط وعدم الرضا والرغبة في ترك العمل)، وكلنا يعرف السبب: ضعف وتدني الأجور التي يتلقونها.
وأيضاً: البيئة المدرسية غير جاذبة، ولا تلبي في معظم الأحيان الاشتراطات الأساسية؛ وأغلب المدارس بلا مختبرات، وبلا مكتبات، وإن وجدت فهي متواضعة جداً، بلا حمامات نظيفة، وبلا ملاعب، وإذا وُجدت ملاعب فهي غير صالحة، وبلا ساحات واسعة، أو مساحات مزروعة، الغرف الصفية عموماً صغيرة...إلخ.
وأيضاً، وربما الأهم: المناهج، المناهج مملة والكتب صعبة، وأساليب التدريس غير مشوقة.. صحيح أنّ وزارة التربية قدمت خطة إستراتيجية لتطوير المناهج من بين ما تضمنته فكرة التخلص من الكتب تدريجياً.. وهذا مسعى جيد، ولكن على ألا يكون ذلك باستبدالها بالحواسيب المحمولة، بل بتوفير بدائل عملية متنوعة، مثلاً يمكن لفيلم وثائقي عن جسم الإنسان أن يكون بديلاً عن فصل كامل من كتاب العلوم، أو أن تحل مجموعة أفلام تاريخية بدلاً من كتاب التاريخ.. على أن تتبعها مناقشات حرة حول الموضوع.
في هذا السياق، يمكن أيضاً تخيل استبدال حصص الرياضيات والفيزياء المملة ببرامج عملية شيقة، على غرار برنامج «ألعاب العقل» والمسابقات.. وأن تكون حصص الكيمياء والأحياء في المختبر بدلاً من الغرفة الصفية، ويمكن تخيّل حصص تقدَّم في أحضان الطبيعة، أو في أماكن أثرية، أو على المسارح، وفي المصانع.. ويمكن تخيل مناهج جديدة خالية من الحشو والإنشاء، وما هو غير ضروري، وما تجاوزه الزمن.
كل معلم يعرف في قرارة نفسه أن الطلبة ينسون مباشرة بعد الامتحان نصف المعلومات التي تعلموها، وبعضهم ينساها كلياً (وهذا يمكن لمسه بالتجربة)، لأن التعليم من خلال التلقين وحشو المعلومات سيؤدي بالضررة إلى هذه النتيجة، في حين تساعد وسائط الاتصال التعليمية الحديثة على تركيز المعلومة، وبالتالي تقليل الفاقد في التعليم، على أن تراعي تنوع واختلاف قدرات الطلبة على الاستيعاب، فهناك طلبة يتمتعون بسمة التعلم من خلال الوسائل المرئية (بالمشاهدة)، أو بالوسائل السمعية، أو الحسية، وهكذا.
إذا أردنا تطوير التعليم يتوجب علينا أن نغير الأسس القائمة، والتي تجاوزها الزمن.. مثلاً، يجب أن يكون تذوق الأدب هو الهدف وليس حفظ القصائد، يمكن تبسيط المعلومة وتقديمها بشكل شيق، مثل الاستعانة بمشاهدة الأفلام الوثائقية، أو ثلاثية الأبعاد، وتذوق الموسيقى، والاهتمام بالفن والمسرح والرياضة والنشاطات اللامنهجية، وإدماج اللعب بالتعليم، والخروج من حدود الصف والمدرسة إلى الحقول والمتاحف والمصانع والملاعب.. بل والخروج عن الأنماط التقليدية المعروفة، وتشجيع الحوار والجدل، والاختلاف، واحترام البيئة والنظام والقانون... هذه الوسائل وغيرها كفيلة بتوسعة آفاق الطلبة، وتطوير قدراتهم، واكتشاف مواهبهم وصقلها، والوصول لثقافة مجتمعية رحبة، مفادها أن الإنسان الناجح ليس شرطاً أن يحمل شهادة جامعية.. يمكن أن يكون حرفياً، أو صانعاً ماهراً، أو فناناً، أو رياضياً، أوشاعراً، أو ناشطاً في مجال ما.
وفي إطار تطوير المناهج، وتحديث أساليب التدريس يأتي موضوع الامتحانات، وبحسب نظريات التربية الحديثة، فإن الامتحان لوحده أداة غير علمية لقياس قدرات الطالب، علماً أن نظام الامتحانات قائم منذ عقود مضت، وقد شكّل وسيلة غير عادلة تحدد مستقبل الطلبة، حيث أنه يختزل كل المعرفة ويجسدها في الامتحان، وليس في فهم المادة، لذلك بعد الامتحان بساعة واحدة يكون الطالب قد نسي كل ما حفظه.. لأنه هدفه كان اجتياز الامتحان، لا ترسيخ المعلومة وفهمها ومناقشتها ونقدها.. والبديل العلمي الحديث هو تقييم الطالب بالأخذ بعين الاعتبار نشاطاته وإنجازاته وهواياته ومهاراته وطبيعة شخصيته، وعدم الاكتفاء بالامتحان التحريري، إذ يتوجب أن يشمل أيضاً الامتحان النظري القائم على المقابلات الشخصية والحوار التي تحدد مدى فهمه للمادة، وليس بالضرورة حفظها، وأيضاً من خلال الملاحظة الصفية والملاحظة خارج الغرف الصفية، أي ملاحظة سلوك الطالب أثناء وجوده في الصف وخارجه ومدى اكتسابه للمهارات الحياتية.
الأهم من ذلك كله العمل على دمج المهارات الحياتية والقيم المرتبطة بها في المنظومة التعليمية.
أنقذوا التعليم، وانتبهوا لأجيالنا الصاعدة قبل فوات الأوان.. مجرد نداء استغاثة.