حين تروي المرأة الفلسطينية، عن الهزيمة العام 1967؛ لا تكفّ أن تصل الماضي بالماضي الأبعد، وأن تصل الماضي بالحاضر، حيث النكبة المستمرّة، منذ العام 1948، وحيث النضال المتواصل.
وتستدعي الذكريات الذكريات؛ الأحزان والأفراح، حيث يمتزج عذاب الماضي بعذاب الحاضر، وأفراح الأمس بأفراح اليوم، وتحديات الماضي بتحديات الحاضر، وتستدعي الأسئلة الأسئلة، التي كانت وما زالت بحاجة لإجابات شافية، تحيي الأمل.
تروي «نعمت محمد حسن غالي» - المهجَّرة من طاسو/يافا، إلى نابلس، إلى مخيم عسكر – عمّا حدث معها العام 1967، دون أن تنسى للحظة يوم تهجيرها طفلة، من طاسو، العام 1948. تحدَّثت عن القصف والرصاص الذي طار فوق رأسها ورؤوس أشقائها، داخل بيتهم، وجعل والدتها تسعى لمغادرة البيت؛ حفاظاً على أرواح أفراد أسرتها: «وإحنا نايمين، فاتت رصاصة في علبة كاكاو، من فوق روسنا، لو إجت فينا، كان إيش بِدها تعمل في هالليل إمي، وعندها أربع بنات؟! بِـ 15 أيار بَسّ في ليلة وَحدِة نمنا وسقطت فلسطين، احتلّوها اليهود، وصاروا يهجّروا الناس بِالغصب، يطُخّوهم، يهرّبوهم، وبعدين كان فِشّ طحين، معاناة شديدة. حَملتنا إمي، ونقلتنا على منطقة قريبة من يافا، وقعدنا 10 تِيّام، في بيت مهَّجرين. وكانت تتركنا في البيت، وتروح على المينا ع البواخر، والسيارات، بِدها تنجدنا بأي طريقة، سمع فيها «غالب فريتخ» من نابلس، (حَبّ يساعد)، ركَّبنا فوق الغراض في التركّ. أخدت إمي بس لحاف وطُرَّاحتين ومخدِّتين وتُشُط، ونزّلنا قُدّام المدرسة الفاطِمية».
وبدأت رحلة عذاب والدة نعمت بعد التهجير؛ أين تذهب؟ وأين تسكن؟ وكيف تعيش؟ احتمت بسينما غرناطة، التي كانت قيد الإنشاء، وبقيت تشغل غرفة صغيرة جداً فيها، مدة سنتين، وبعدها اضطَّرت لتركها، لتبحث عن مأوى، ولم تجد أمامها سوى تسوية، بجانب إحدى دور البلدة القديمة، حيث فرشت لأولادها تحت الأحجار ليناموا، وبعدها حملتهم، وعادت إلى ساحة غرناطة، لتسكن في خيمة من خيش «وهالأجاويد جابوا لنا خيش وخيّطوه، وعملوا لنا زيّ خيمة»، ثم انتهى بها المطاف لتسكن في مخيم عسكر، الذي كان يعاني فيه المهجَّرون/ات أوضاعاً معيشية شديدة القسوة. لم يكن هناك ماء للشرب، أو للاستحمام، كما أن الحمامات كانت مشتركة.
وفي مواجهة تلك الظروف المعيشية القاسية؛ شمَّرت النسوة عن سواعدهن، وعملن بكل طاقاتهن وإمكانياتهن. عملن في البيوت، وفي الحقول، وفي التحطيب، وفي التجارة.
لم تكفّ والدة نعمت يوماً عن البحث عن عمل، خاصة أنها فقدت زوجها، قبل العام 1948، حين كانت حاملاً في ابنتها الرابعة. لم يكن همّها إعالة أسرتها فحسب؛ بل طمحت إلى تعليم أبنائها أيضاً.
«اشتغلت إمي اشتغلت، وتربّي فينا، كانت تحمل 6 بقاليل لبن، من قرية عزموط لنابلس، توَدّيها للبياع، وتجيب الفاضي ع قرشين بَسّ، وتتصرَّف، وتشتغل، صارت بِالحصاد تحصد، واشتغلت في البيوت، وفوَّتتنا المدرسة. كانت خيم كبيرة الصفوف، والخيمة ستين بنت».
عملت الوالدة آذنة في مدرسة عسكر، كي تعلِّم أبناءها. درست نعمت حتى الصف السادس، وانتقلت بعدها إلى نابلس، وأنهت الإعدادية في مدرسة الخديجية، والثانوية في العائشية، ونجحت بتفوّق. توظَّفت بعد تخرجها العام 1963، في الأردن، بقرية صما/ قضاء إربد، وكانت تعود إلى عسكر كل أسبوع، وبعد صما انتقلت إلى الجفتلك (شمال أريحا). وبعد العام 1967؛ توظفت معلمة في نابلس، ثم تزوَّجت، وسكنت مخيم بلاطة مدة عشرة أشهر. وحين تحدَّثت عن الحليّ التي تلقتها هدية زواجها، تبيَّن أنها لم تَتَزيَّن بها فحسب؛ بل استخدمتها لسدّ احتياجات الأسرة: «لبَّسني جوزي تلبيسة منيحة: خمس أساور، اثنتين معرّجات وتقال، وثلاثة سادة، وواحدة مجدَّلة، وعقد تقيل؛ ورقتين عنب وخمس حبّات في النُصّ، بعتهم، اشترينا أرض، ولادي سبعة، ثلاث بنات وأربع أولاد، واتّداينّا وعملنا الدار».
العام 67، كان عام الأوهام والخديعة، كما وصفه الكثير من الفلسطينيين/ات؛ أوهام حول انتصار الجيوش العربية، وخديعة من الجيش الإسرائيلي، حين دخلت بعض قواته المدن والقرى الفلسطينية، بثياب مدنية:
«اليهود إجوا قالوا بِوجِهنا: إحنا جزائريين، وبعدين اكتشفوهم يهود، عرفوا من السيّارات، والدبّابات، وصاروا يمنعوا التجول من العصر».
خرجت نعمت مع عائلتها إلى بيت فوريك، لأن دارها في طرف بلاطة، وبسبب انفجار قنبلة في حوارة، تصاعدت بعدها أعمدة الدخان، وأنذرت بالقتل والتدمير. جلسوا تحت الشجر، ثم مشوا حتى وجدوا مغارة كبيرة، بقيوا فيها يومين، عانوا فيها الجوع والعطش، قبل عودتهم إلى بيتهم. «لَقينا اليهود قُدّامنا رجعنا، قلنا: طَخّ بِطَخّ ارجعوا موتوا في الدار».
وبعد عودتها إلى بلاطة، تحدّثت عن الخوف من القتل، كان العديد من الناس قد جاؤوا من قلقيلية، وسكنوا في مدارس وكالة الغوث، في ظروف مزرية؛ تعب وعطش وجوع، ومعاناة صحية ونفسية، وخاصة بالنسبة للنساء. تحدَّثت نعمت، كيف كانت تحمل الماء على رأسها من عسكر إلى بلاطة، وكيف أن الناس كانت تنتظر دورها كي تحمل الماء، والجميع في حالة صعبة جداً.
بعد خمسة عشر يوماً، ذهبت نعمت/مديرة مدرسة الجفتلك، مع مدير التعليم، كي تتفقد المدرسة، وركبا سيارة الوكالة المخزَّقة بالرصاص، ولكنها لم تجد أحداً في الجفتلك. وفي الطريق شاهدت آثار الدمار والخراب، في كل مكان، خاصة الجنود الشهداء، وسيارات الجيش الأردني المحروقة، نتيجة إلقاء القنابل عليها.
داوم المدرِّسون والمدرِّسات، بعد الاحتلال، دون طلاب، ولذا داومت نعمت في بلاطة، حوالي شهرين، دون طلاب، ولم تعد بعدها إلى الجفتلك.
في نهاية شهادتها؛ لم تملك «نعمت غالي» سوى أن تقارن بين حياتها، اليوم، وحياتها بالأمس؛ لتتغنى بالحياة قبل الاحتلال: «والله كانت الحياة اللي قبل الاحتلال حلوة».
عبر روايتها تعنى المرأة الفلسطينية بوصف تفاصيل الحياة اليومية - التي عاشتها وعائلتها، قبل التهجير، وأثناءه، وفي دول اللجوء -، وتأثير الأحداث التاريخية عليها؛ ما يضيف إلى الرواية التاريخية الفلسطينية، ويثريها.