تحدثت في المقال السابق عن عناصر الأزمة المالية التي تتلخص بعجز في موازنة السلطة بقيمة 3.5 مليار دولار وعجز في موازنة الأونروا في العام بقيمة 646 مليون دولار ما أدى الى توقف بعض خدماتها، وبطالة بنسبة 25% وفقر بنسبة 33%. وعجز في دفع رواتب موظفي القطاع العام بنسبة 20%. وبون شاسع بين أسعار وأقساط ترتفع بشكل متواصل وبين أجور منخفضة ومنقوصة.
وتحدثت عن أسباب الأزمة التي يقف في مقدمتها النهب الاستعماري لمختلف الموارد، والقرصنة الإسرائيلية لأموال المقاصة، وتراجع الدعم الدولي بنسبة 80% وتراجع الدعم العربي بنسبة 84%، وسياسة الرأسمال الفلسطيني القائمة على الربح والاحتكار والتهرب الضريبي، والخلل البنيوي في توزيع الموارد وفي تحديد الأولويات.
عدم التدخل وتقديم المبادرات ومشاريع الحلول من فوق ومن تحت، يعني بقاء الوضع على حاله بل الانتقال من سيئ إلى أسوأ وصولاً إلى المس بمناعة الشعب وإضعاف قدرته على الصمود والبقاء، وعن مجابهة مشاريع تصفية القضية الفلسطينية المعمول بها من قبل نظام الفصل العنصري الكولونيالي الإسرائيلي.
نعم، تصفية القضية الفلسطينية هي هدف غير معلن يقبع خلف إجراءات القرصنة والحصار المالي.
إزاء ذلك ومن أجل قطع الطريق على الهدف الإسرائيلي المدعوم أو المتواطأ معه دوليا وإقليميا، لا بديل عن تقديم المبادرات والخطط والأفكار العملية للتخفيف من حدة الأزمة على طريق الخروج منها بأساليب مبتكرة.
أولاً: وضع خطة لحماية وتأمين قطاعات حيوية كالتعليم والصحة والشؤون الاجتماعية واللاجئين. فالصمود الفلسطيني وإفشال مشروع تصفية القضية الفلسطينية لا يكون بمعزل عن الإيفاء باستحقاقات هذه القطاعات، ما يستدعي إعادة صياغة الحاجة الفلسطينية وربطها بقرارات الدعم العربي غير المعمول بها. فهل يقبل النظام العربي باستمرار أزمة هذه القطاعات وصولا إلى انهيارها، أم أنه معني بالحد الأدنى من الالتزام المالي المقر في القمم العربية وفي اجتماعات الأمانة العامة لجامعة الدول العربية.
منطقياً لا تستوي أقوال تأييد حل القضية الفلسطينية سياسيا، والامتناع أو تقليص الدعم المادي لشعب هذه القضية وترك قطاعاته الحيوية تتخبط في أزمة شديدة.
الشيء نفسه ينطبق على دعم مدينة القدس بمئات القرارات مع قليل من الدعم أو مواءمته مع أجندات لا تفيد الحفاظ على هوية القدس ومعالمها الحضارية.
الجهة الرسمية الفلسطينية مطالبة بتقديم خطة باحتياجات القطاعات الحيوية للجامعة العربية من أجل إنقاذها ودعمها.
ولإزالة الغموض عن تجربة الدعم العربي وإخضاعها للشفافية وربط الدعم أو الحصار بالبعد السياسي الداعم للتحرر الفلسطيني من الاحتلال أو العكس.
ثانيا: إعادة تحديد أولويات الموازنة والإنفاق وتعديل في البنية الإدارية بما يتلاءم مع الإيرادات القائمة والمحتملة ضمن خطة طوارئ تستجيب مع المتغيرات السياسية الراهنة والمحتملة.
الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي أولاً، ودعم جهاز شرطة بوظيفة الحفاظ على القانون والنظام والسلم الأهلي. وتكثيف البنية المؤسسية الإدارية في إطار مؤسسي فاعل وخاضع لمعايير مهنية صارمة دون المس بحقوق العاملين السابقين. فلا مبرر لعشرات الوزارات ولوزراء قائمين وسابقين، ولا حاجة لعشرات الهيئات الحكومية الموازية بموازنات تثقل على كاهل دافعي الضرائب دون قيمة وظيفية. ولا داعي لمئات الأعضاء في السلك الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية ولا لعدد السفارات التي أصبح بعضها دون دور أو وظيفة وجدوى.
التغيير في الأولويات والبنية يستدعي استحداث هيئة تخطيط وتقييم مهنية مستقلة تقدم مشاريع تغيير في البنية، وهيئة رقابة مستقلة تقيم الوضع السابق وتتابع عمل الهيئات المستقلة، وهذا يستدعي العودة إلى انتخاب مجلس تشريعي كمرجعية قانونية.
ثالثا: الانتقال من اقتصاد نيوليبرالي قائم على احتكار النخب الرأسمالية لمفاصل في الاقتصاد، ومعاظمة الأرباح، وممارسة أشكال من التهرب الضريبي، وتحويل السواد الأعظم من المواطنين إلى باحثين عن مساعدات، مطلوب الانتقال إلى اقتصاد تعاوني قائم على تحقيق تنمية من خلال التعاون في الإنتاج عبر مشاريع صغيرة وعبر التشارك في الموارد والفوائد وتحقيق مصالح مشتركة. وعبر البدء بتعاونيات زراعية منتجة، وحماية حقها في السوق المحلي في مواجهة المنافسة الإسرائيلية غير المتكافئة.
ومن خلال الاستثمار في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتطوير منتجات وخدمات جديدة عبر إنشاء وابتكار صناعات محلية، وتوليد الطاقة، وكل ذلك تحت هدف تعزيز تنمية المجتمع وتحسين الوضع الاقتصادي ومعاظمة الصمود في مواجهة مشاريع تصفية الحقوق الوطنية المشروعة.
نظريا يستطيع قطاع غزة ابتكار صناعات محلية، وتستطيع مدينة الخليل استعادة دورها في صناعة الأحذية وتطوير صناعة الزجاج والخزف، ويمكن تعميم التعاونيات الزراعية في الأغوار والريف الفلسطيني المهدد بخطر الاستيطان، ومن غير المستبعد دخول عالم الهايتيك بشكل وبآخر.
كل ذلك يحتاج إلى رأسمال أولي وموارد وشراكات استثمارية وتوفير المهارات اللازمة.
رابعا: الرد على القرصنة والسطو الإسرائيلي على الموارد - أرض مياه غاز - وأموال المقاصة ومقتطعات التعويض عن قتلى إسرائيليين، يبدأ ببلورة رأي قانوني حول هذه الانتهاكات ومطالبة جهات الاختصاص الدولية باستعادة الموارد والأموال والتعويض عن الجرائم التي ارتكبتها سلطات الاحتلال بحق الضحايا الفلسطينيين وبحقوق العمال بأثر رجعي.
خامسا: الخروج من براثن اتفاق أوسلو واتفاق باريس الاقتصادي، اللذين جرى التوقيع عليهما باعتبارهما اتفاقين مؤقتين، لكنهما تحولا إلى اتفاقين دائمين من طرف واحد. وتستخدمهما دولة الاحتلال كغطاء لتعميق الاستيطان وتثبيت الاحتلال وتدمير أي أفق سياسي للحل، وتصفية الحقوق الوطنية والمدنية المشروعة للشعب الفلسطيني، واخيرا جرى وقف الدعم الاقتصادي الدولي والعربي للشعب الفلسطيني مع توقف العملية السياسية منذ العام 2014. وجرت معاقبة الشعب تحت الاحتلال.
لقد تلاشت كل المبررات لبقاء الشعب الفلسطيني مقيداً باتفاق تمارس فيه دولة الاحتلال الموقعة عليه كل أشكال التوسع الاستيطاني والتطهير العرقي والنهب والقتل والاعتقال والعقوبات الجماعية والفصل العنصري والقرصنة المالية.
من الضروري بلورة رأي قانوني من هذا الاتفاق توطئة للإفلات من براثنه، ودعماً لإرادة أكثرية الشعب الفلسطيني التي شرعت بالانفضاض عنه.