مرت ست وخمسون سنة منذ أن انتصرت إسرائيل على الجيوش العربية في حرب حزيران من العام 1967، والتي احتلت فيها إسرائيل أراض عربية واسعة منها كامل شبه جزيرة سيناء حتى قناة السويس وهضبة الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة ما بعد حدود الهدنة من عام 1949. وكانت هزيمة ساحقة ونكراء على الرغم من أن الأنظمة العربية حاولت التخفيف من حجمها بتسميتها نكسة، مع أن الواقع يقول رواية أخرى. والهزيمة التي مُني بها العرب ليست أقل وطأة من هزيمة المنظومة الدولية الممثلة بالأمم المتحدة ومنظماتها كافة التي فشلت منذ ذلك الوقت في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لما تبقى من الأراضي العربية بعد أن نجح المصريون في استعادة سيناء.
في الواقع أن مسلسل الهزائم العربية لم يقتصر على مجرد احتلال اسرائيل للأراضي العربية وفي مقدمتها كامل مساحة فلسطين التاريخية، بل وفي فرض معادلة جديدة للصراع، حيث فرضت نتائج الحرب تغييرا في المطالب العربية إلى القبول بمجرد انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلت عام 1967، ونسيان حتى قرار التقسيم رقم 181 من العام 1947، وكأن حرب حزيران مسحت خطوط التقسيم وكرست خطوط الهدنة في نهاية حرب عام 1948 والتي تشمل فقط الأراضي المحتلة منذ عام 1967. أي أن الهزيمة العربية الكبرى في الحرب لم تكن فقط هزيمة عسكرية وسياسية بل تجاوزتها إلى هزيمة في الوعي وفي النظرة لإسرائيل من دولة غير شرعية إلى مجرد مطالبتها بالانسحاب إلى حدود الهدنة، التي اصطلح عليها بعد ذلك بحدود الرابع حزيران من العام 1967.
التغيير التدريجي في المواقف والاستراتيجيات العربية تجاه إسرائيل جاء بتأثير من الموقف الدولي الذي تعامل فقط مع آثار العدوان الإسرائيلي، وخاصة قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي يعتبر الحد الفاصل بين الفترة التاريخية ما قبل حرب 1967 وما بعدها، فهذا القرار شطب نهائياً قرار التقسيم الذي ينص على إقامة دولتين يهودية وعربية، حيث أن مساحة فلسطين حسب القرار ضعف مساحة كامل الضفة الغربية وقطاع غزة. بمعنى أن العدوان الإسرائيلي كرس واقعاً جديداً يتطلب فقط إزالة آثاره، وتجاهل جذور الصراع والقرارات التي سبقته باستثناء قرار عودة اللاجئين الفلسطينيين رقم 194، الذي لم يطبق مع أنه كان جزءاً من شروط الاعتراف الأممي بدولة إسرائيل، وهو لا يزال مطلباً فلسطينياً وعربياً تنص عليه قرارات القمم العربية ولكن النظرة إليه اختلفت في قمة بيروت عام 2002 مع تبني المبادرة العربية للسلام، التي نصت على "حل عادل ومتفق عليه" لقضية اللاجئين الفلسطينيين على أساس القرار 194.
إسرائيل في الحقيقة لم تهزم أربعة جيوش عربية فقط، بل هزمت الضمير العالمي وهزمت منظومة المجتمع الدولي التي من المفروض أن تنتصر للعدل والقانون والقرارات الدولية. فالتكيف الدولي مع عدوان حزيران وجريمة إسرائيل الكبرى ضد العرب، لم يقتصر على استبدال قرار التقسيم رقم 181، بقرار 242 الذي أضحى الأساس لحل الصراع بدلاً من الأول، بل وفي فشل هذه المنظومة في تحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967 وحتى يومنا هذا. وليس هذا فحسب بل تعاملت مع إسرائيل كدولة فوق القانون، ولم تطبق عليها أي نوع من العقوبات على خرقها للقرارات الدولية التي هي أصلاً غير عادلة، وتعبر عن موازين القوى الاستعمارية ونتائج الحروب العالمية أكثر مما تعبر عن حقوق متساوية للبشر.
إعادة قراءة نتائج عدوان حزيران يجب أن تتم في كل مرحلة حسب التطورات الحاصلة على الأرض. وهي متواصلة وتشهد تآكلاً في المواقف العربية والدولية، وانهياراً في الوضع الفلسطيني العام. فالدول العربية بضغط من الولايات المتحدة تراجعت عن موقفها الذي تبنته في قمة بيروت 2002، وذهب بعضها للتطبيع مع إسرائيل دون أي ربط بانهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وحل القضية الفلسطينية ووضع حد للصراع. بمعنى أنه ليس فقط المنظومة الدولية هي التي تعاطت مع العدوان كحدث يجب ما قبله، بل إن الدول العربية المطبعة مع إسرائيل نسيته تماماً ولم يعد قائماً سوى في بياناتها التي أضحت مجرد ضريبة كلامية لا معنى لها.
وقبل أن نلوم العرب والمجتمع الدولي على التقصير في دعم الحقوق الفلسطينية وهذا أمر مفروغ منه، علينا أن نرى واقعنا الكارثي الذي يشجع الآخرين على تجاهل قضيتنا والتنكر لها. فعندما يستمر الانقسام وتتحول فلسطين إلى كيانين منفصلين، فلا نتوقع أن يأخذ أحد قضيتنا على محمل الجد حتى لو كانت قضية مبدئية تتعلق بالحق والعدالة الدولية. وهزيمتنا الكبرى ليست فقط في استمرار الاحتلال، بل وفي تكريسنا واقعاً يساعد إسرائيل على تنفيذ مشروعها الاستيطاني المناقض لحقنا في الاستقلال. وقبل أن نطالب أحداً بالانتصار لحقوقنا علينا نحن أن ننتصر لأنفسنا ونعود لمشروعنا الوطني التحرري وننسى تقسيم الكعكة والمكاسب الصغيرة. ونحن في الواقع بحاجة قبل كل شيء إلى ثورة داخلية تعيد لقضيتنا اعتبارها.