تقرعُ في الذّاكرة أسماءُ مواقع عادت، اليوم، إلى مكانها البيروتي المتواضع. مثلاً: “مُستديرة “دار الصيّاد”، “الطيُّونة”، “المطاحن” “الشيفروليه”، “المازدا”، “دار الكتاب اللبناني”؛ “هوليداي إن”..إلخ، هنالك دارت أشرس معارك الكرّ والفرّ؛ دفاع المواقع واقتحامها خلال “الحرب بين البيروتَيْن” الشرقية والغربية 75 - 87.
ربّما ما يقرعُ في الذاكرة من أسماءِ تلك المواقع، هو ما حدا بي لاستخدام تسميات مجازية، مثل “مسرح عمليات” البالوع - الجلزون.. وأحياناً “خطّ الجبهة”.. المتعرّج - المتحرّك يومياً، ثم عدّة مرّات يوميّاً، وأحياناً، بين الساعة والتي تليها.
داخلني إحساس بأنني أستعير استعارة مَجازيّة، وأحياناً مَكنيّة، أو ألجأ إلى التشبيه ودرجاته وصُوَرِه (فُلان كالأسد. فُلان أسد. الأسد فُلان).
.. حتى، أمس، صباحاً، عندما كانت سيارة الجيب الإسرائيلية، و”الرانج” تربض فوق مُستديرة البالوع، وإلى جانبها جرّافة (صفراء كالعادة) من نوع “كاتر بيلر” (كالعادة). فتذكرت أنّ للعقيدة العسكرية الإسرائيلية “ثُنائي دبّابة - طائرة” في الغزو؛ وثُنائي “دبّابة - جرّافة” في الاحتلال.. وفي الحصار، يمكن أن يغدو الثنائي سيّارة “رانج” - جرّافة.
منذ أربعين عاماً ويزيد - يقول أهل البلد - والأُغنية هي إيّاها: “وين؟.. عَ رام الله”. ولأنّ رام الله بمثابة “المُرضِع” لحوالى 50 - 60 قرية، تعتمد عليها اعتماد الطفل على أُمّه وحليبها، فإنّ حصار رام الله ليس كحصار الخليل - مثلاً - حيث لتلك المدينة “أولاد” كبار، مثل “يطّا” و”دُورا” .. وقِسْ على ذلك فيما يخصّ باقي المدن في الضفة التي تسمى “غربيّة” وقد يُسمونها هُم “شرقيّة”.
***
ما هي مُستجدّات “خُطوط الجبهة” أو “مسرح عمليات” الجلزون - البالوع؟ هي، ببساطة وإعجاز معاً، تطبيق “سباق التتابع” المعروف في الرياضة، وذلك على النحو الآتي:
تستقلُّ سيّارة مرسيدس من بيرزيت لتُوصلك إلى أقربِ حاجزٍ صار بالمتراس العسكري أشبه. تدفع الأُجرة.. تعبر المتراس سيراً على الأقدام، ثم تستقلّ سيّارة أُجرة أخرى.. من نوع مرسيدس غالباً، أو “فورد” الشهيرة.
في هذه المرحلة تتمّ العملية تحت أَبصَار الجُنود.. الذين لا يُحرِّكون ساكناً، فهم يُمارسون تنفيذ أوامر تنكيليّة تتبدّل يوماً عن يوم، أو مرّات عدّة في اليوم الواحد.
على السيّارات الخُصوصيّة أن تلوب باحثة عن ثغرة ما، سرعان ما تجدها بطريقة ما.. عن طريق توسيع خط الجبهة.. إلى ذلك الطريق الالتفافي الذي يبدأ عند جبع وينتهي عند مُستديرة البالوع – “بيت إيل”.
من وسائل التنكيل الإسرائيلية أن يسمح جُندي ما لسيّارة ما بالمرور عَبر “المحسوم” الرئيس.. فتندفع السيّارات إلى ذلك “الرجاء”، فيُمارس الجُندي مزاجيّته. فقد يمنع الجميع، وقد يسمح لمن منعه بالأمس، أو في الصباح.
اقترفنا “غلطة”، صباح أمس، عندما أبرزنا بطاقة هويّة صحافيّة، كانت كافية ليصرخ: (لَا. لُو. نُو) حتى قبل أن يُلقي نظرة على الهويّات الشخصيّة.
***
على ذلك “المحسوم” حصلت طُرفة ضَحِكَ لها الأولاد من أعماقهم. قطيعٌ من الماعز “دهمَ” الحاجز بقوّةِ غريزته الحيوانيّة.. فحاصر الجُنود سخلةً واحدةً ما لبِثتْ أن “نطّت” فوق الحاجز.. أمّا الرّاعي الصغير الذي له من العمر حوالى (12 عاماً)، فقد “التفّ” على “المحسوم”، فصار الجُنود يرمُونه بالحجارة والسُّباب.. من على بُعد 25 متراً، دون أن يُصيبه حجر واحد.
من المؤكّد أنّ الرّاعي كان سيُصيب الجُندي من رَميةِ الحجر الأولى، لكنّه اكتفى بالوَثْبِ العالي، وبالمُناورة بجسده الرشيق.. ثم مضى في حالِ سبيله وهو يضحكُ ساخراً.. “ماع” .. “ماع”؟!
***
يُخيَّل إليّ أنّ من حقّ سكان مخيم الجلزون أن يَنصِبوا “مَحسُوماً” على دربه الرئيسة، ويتقاضوا شيكلاً واحداً من كل سيّارة. لو فعلوا ذلك، لجمعوا خلال أسبوعين من أسابيع الحصار، ما يُمكنهم من إصلاح ذلك “الشارع” الضيّق وتعبيده.. الذي ستحتاجه سيّارات الـ “بي. إم” خلال حصار آخر!
***
تمنحك مسالك الحصار الوعرة فرصةً إضافيةً للتأمُّل، والمقارنة بين القرية الفلسطينية والقرية العربية؛ بين البيت العادي في الرّيف الفلسطيني، وبيت عادي في ريف الأردن وسورية.. ومصر، وحتى لبنان (قرى قبرص خارج المقارنة!).
لا توجد تفاوُتات عمرانية بين مُدن الضفة كما نجدها بين مُدن البلاد العربية.. سوى أنّ البُنية التحتية تختلف. يُمكن أن تجد بيتاً حجرياً في أصغر قرية فلسطينية لا يقلّ جَمَالاً عمرانياً عن أرقى أحياء رام الله. لكن الطرق هي المشكلة، والهاتف، والمجاري.. وبعض الدكاكين.
فهل إذا احتاج الساكن في بيرزيت أربع صُور فورية يجب أن يُردّد الأُغنية “وِين؟ عَ رام الله”.
بالمناسبة، تقطّع نعل الصبي (صندله) فلم نجد “كُندرجيّاً” لا في بيرزيت، ولا حتى في مخيم الجلزون بأسره.
“وِين؟ عَ رام الله”.. حتى إذا اشتهى ساكن بيرزيت صحن حُمّص، أو سندويشة فلافل.. أو “فرُّوج مَشوي”.
لذلك، فحصار رام الله هو الحصار، واختراقه هو نوع من اختراق “مسرح عمليات” الحصار. بين إسرائيل وبين رام الله “حالة حرب”.. فريدة حقاً!