- مراسلنا: استشهاد مواطنة جراء قصف منزل لعائلة أبو الحصين شرق مدينة رفح
ليست هذه المرّة الأولى التي تقتحم فيها قوات الاحتلال الصهيوني مخيّم جنين، ولن تكون الأخيرة، إذ لجنين، ومخيمها، وكتيبتها، شأنها شأن البلدة القديمة في نابلس، التي استحالت عرينًا لأسودها، حكاياتٌ تُروى، وقصص بطولة، وشهادة، كُتبت عنها مقالات وكُتب، وألهبت خيال الشعراء والأدباء منذ الانتفاضتين، الأولى والثانية، وما قبلهما وما بعدهما على امتداد تاريخ النضال الفلسطيني.
كتيبة جنين مثل مقاومتها ليست حكرًا على فصيلٍ بذاته، فهي تضمّ شبابها على اختلاف انتماءاتهم من كتائب الأقصى، إلى حركة حماس، إلى حركة الجهاد الإسلامي، وغيرهم ممن ولدوا بعد اتفاق أوسلو الكارثي، ولم تر أعينهم سوى الاحتلال ومستوطناته السرطانية، ووجوب مقاومته. وجرت ملاحقة هؤلاء الشباب، ومطاردتهم، واعتقالهم من الاحتلال، ومن أولئك الذين اعتقدوا أن قمع المقاومة، والتنسيق الأمني مع المحتلّ، سيحافظ على سلطةٍ، وسيلد دولة.
تمسّك هؤلاء برواية آبائهم وأجدادهم الفلسطينيين بأن هذه البلاد لهم، فكانوا نقيضًا للرواية الصهيونية، وخصمًا لدودًا لها ولمن لا يزال يعتقد أن ثمّة منزلة بين هاتين الروايتين. ويسجل لحركة الجهاد الإسلامي أنها نجحت في جمع هؤلاء، ولم تفرض على أحدٍ أن ينحاز إليها، لكنها نسّقت جهودهم، وسعت إلى نقل هذه التجربة إلى أماكن أخرى، كما صمدت أمام عمليات الاقتحام، والاغتيال الصهيوني المتكرّرة، التي كانت تنفذها وحدات المستعربين والقوات الخاصة في الجيش الصهيوني، والتي تمكّن العدوّ فيها من تحقيق بعض النجاحات. نظرًا إلى حداثة التجربة واندفاع شبابها، كما صمدت أمام ملاحقات الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ومحاولاتها إغراء عناصرها بتسليم أنفسهم وسلاحهم لها، على أن تحصل لهم لاحقًا على عفوٍ مشروط من الاحتلال، والأهمّ من ذلك كله أن ثمّة حاضنة جماهيرية واسعة احتضنتها وأمّنت لها أسباب الدعم والحماية والاستمرار.
تصاعدت المقاومة بأشكالها المتعدّدة في الضفة الغربية، حتى يمكن القول إن جذوتها قد انتقلت مؤقتًا من قطاع غزة إلى الضفة الغربية. وإزاء ذلك، تصاعدت دعوات المستوطنين الذين يشكّلون العمود الفقري لحكومة نتنياهو، للقيام باجتياح شامل لجنين ونابلس، في إشارة إلى عملية السور الواقي عام 2002، والتي اجتاح فيها العدوّ الضفة الغربية، مهدّدين بأنه إذا لم يتم ذلك، فستُنزع الثقة عن الحكومة الإسرائيلية، وقد رضخ نتنياهو لهذه الضغوط رغم تحفّظات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وأعطى موافقته على اجتياح مخيّم جنين، وقام باستعراض قوّة لا مبرّر له من الناحية العسكرية، حيث حشد ثلاثة آلاف جندي مدعومين بالدروع، والمركبات والطائرات الحربية والمروحية والمسيّرة، والجرّافات التي أمعنت في تخريب البنية التحتية في المخيم وتدميرها، ما أسفر عن تدمير 300 منزل تدميرًا كاملًا، و500 منزل تدميرًا جزئيًا، إضافة إلى تدمير شبكات الكهرباء والمياه والطرق، واستشهاد 12 فلسطينيًا، منهم ثمانية من كتيبة جنين، وإصابة عشرات بجراح.
انسحب الأمن الفلسطيني من شوارع جنين فور بدء العملية العسكرية مباشرة، وعاد إلى الظهور بعد الانسحاب الإسرائيلي
استمرّت العملية 49 ساعة، وفي اليوم الثاني صرّح العدو بأن العملية مستمرّة لأن ثمة 300 مسلح فلسطيني ما زالوا يتمركزون في وسط المخيم، وأن الجيش سيستمر في مهمّته للقضاء عليهم، ولعل هذا أبلغ دليل على فشل العملية، إذ لم يستشهد، في الأربع والعشرين ساعة الأخيرة، سوى فلسطيني واحد، وحافظ المقاومون في مخيم جنين على قواهم كاملة.
أوقف الجيش الإسرائيلي العملية بعد ذلك، نتيجة نقص المعلومات الاستخبارية كما ادّعى الناطق باسمه، وهو دليل فشل شديد لأجهزة الأمن. ويعود هذا أساسًا إلى البيئة الجماهيرية الحاضنة للمقاومة التي لا تستطيع الكلمات إيفاءها حقّها، فقد توالت المساعدات لأهالي المخيم الذين جرى تهجيرهم، وفتحت لهم بيوت الأهالي في جنين وقراها، وكان مشهدًا عزّ نظيرُه نقلته شاشات التلفزة وتقارير المراسلين.
وقفت السلطة الفلسطينية الموقف التقليدي المتاح، فقد اجتمعت قيادتها برئاسة الرئيس محمود عبّاس، ودانت الاعتداءات، وتوعدت باللجوء إلى مجلس الأمن، ومحكمة الجنايات، وقرّرت تخفيض مستوى الاتصالات مع الولايات المتحدة، (هل يوجد مستوى أقل من هادي عمرو؟)، ولم توضح ما إذا كان هذا يشمل أيضًا المساعدات الأمنية التي تنقل مباشرة إلى الأجهزة الأمنية، ولم تتوقف حتى في ذروة صفقة ترامب - نتنياهو، ودعت إلى اجتماع عاجل للأمناء العامين للفصائل، بعد أن علقت ذلك منذ أعوام، وأعلنت عن وقف الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي واستمرار وقف التنسيق الأمني، وهو الأمر الذي نفاه الإسرائيليون، بل أعلن وزير الجيش الإسرائيلي، بعد انتهاء العملية، أن "السلطة الفلسطينية ما زالت تعمل والآليات (الأجهزة) التي تقوم بواجباتها تصبّ في المصلحة الأمنية الإسرائيلية. والهدف منهم أن يقوموا بدورهم، وإذا أظهروا المسؤولية والردع فسنتيح لهم ذلك". وأذاعت حركة الجهاد الإسلامي بيانًا طالبت فيه بالإفراج عن أعضائها ممن اعتقلتهم أجهزة الأمن الفلسطينية. وقد انسحب الأمن الفلسطيني من شوارع جنين فور بدء العملية العسكرية مباشرة، وعاد إلى الظهور بعد الانسحاب الإسرائيلي، حيث تظاهر شبابٌ غاضبون أمام مبنى المقاطعة، احتجاجًا على دور السلطة وانسحاب الأمن من المدينة، وعدم قيامه بواجبه في حمايتهم، وقمعهم الأمن الفلسطيني بقنابل الغاز المسيّلة للدموع.
على العقلاء في الفصائل، وتحديدًا حركتي فتح وحماس، أن يبتعدوا كل البعد عن إثارة النعرات والتحريض على الآخرين، والتركيز على الاحتلال
وفي حادثة أخرى احتج المشيعون، بمن فيهم كوادر من حركة فتح وكتائب الأقصى، في جنازة الشهداء على وجود قيادات من السلطة الفلسطينية، وحركة فتح في التشييع، وأوقفوهم عن الخطابة، وأرغموهم على المغادرة، وقد أدى ذلك إلى ردود فعل سلبية من أجهزة السلطة ضد أنصار حركة حماس في مناطق أخرى من الضفة، كما شنّ الإعلام الفلسطيني حملة واسعة ضد "حماس".
لعل ذلك من الدروس والعبر التي يتبيّن إدراكها والاهتمام بها، فمن الواضح ذلك التراجع الكبير في شعبية السلطة الوطنية، (18%، حسب الاستطلاعات، ما زالوا يؤيدون أداءها). وأصوات الاحتجاج على ذلك تعلو وتتعاظم في كل يوم. ولكن من ناحية أخرى ينبغي الانتباه إلى أن مقاومة سياسة التنسيق الأمني ومطاردة المقاومين وتقاعس السلطة عن أداء واجبها، والنقد والاحتجاج يجب أن توجّه إلى السياسات الخاطئة، وخصوصا على المستوى السياسي، وليس عبر الهجوم اللفظي على أفراد الأجهزة الأمنية، فهم كانوا وما زالوا، بصفتهم الفردية، جزءًا من الشعب الفلسطيني، وما زال في الذاكرة دورهم في التصدّي لاجتياح الضفة الغربية خلال الانتفاضة الثانية، بما في ذلك اقتحام نابلس ومخيم جنين، كما أن منهم شهداء وأسرى نفّذوا عمليات فردية، هم وأبناؤهم. وفي كل يوم تطالعنا الأنباء عن اعتقال بعضهم خطّط أو نفذ أو ساعد في تنفيذ تلك العمليات هم إخوة، وأبناء عم، وشركاء في الوطن والمقاومة، وعلى العقلاء في الفصائل، وتحديدًا حركتي فتح وحماس، أن يبتعدوا كل البعد عن إثارة النعرات والتحريض على الآخرين، والتركيز على الاحتلال، والاحتلال وحده، ومن يقم بغير ذلك يضع القمح في طاحونة العدوّ، ويعزّز الانقسام ويخدم هذا العدو، ويساهم في جعل انتصار مخيّم جنين يفقد شيئًا من بريقه