العين السليمة لا تخطئ رؤية الدخان والبارود الذي يغطّي سماء فلسطين، والمحيط الإقليمي.
لم تكن جنين استثناءً، فهي وإن كانت في عين العاصفة، فإنّ كلّ الأرض المحتلة تقع هي الأخرى في عين العاصفة.
إسرائيل المحتلّة تركب أعلى أمواج الجنون الفاشي العنصري. كالثور الهائج انفلت الإرهاب الإسرائيلي بكلّ قوة، ومن دون حساب في حربٍ مفتوحة على الحقوق والقوانين والأرض والبشر والشجر.
الحديث عن الحرب البشعة المفتوحة لا يصدر فقط عن محلّلين، أو فصائل، بل إنّه يصدر عن مسؤولين في السلطة الوطنية الفلسطينية.
ثمة إدراك شامل من قبل الشعب الفلسطيني وفصائله ونُخبه السياسية والاجتماعية لأبعاد وأهداف هذه الحرب المسعورة، لكن هذا الإدراك لا يُترجم بإجراءات وسياسات فلسطينية تعظّم حالة المقاومة وتؤكد وحدة الكلّ الفلسطيني.
بسرعة ولأبسط الأسباب تندلع موجات الاتهامات، والاتهامات المضادّة، التي تعكّر الدم الفلسطيني النازف.
الحديث عن إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة والوحدة، أصبح حديثاً مملّاً ويدعو للإحباط، فالهوّة لا تزال تتّسع، والإرادة غائبة، والاحتلال لا يزال يحرّض ويعبث بالعلاقات الفلسطينية الداخلية.
لا يمكن تبرير حالة الجُمود في الواقع الفلسطيني سواء على مستوى الاختلافات السياسية، أو على مستوى النظام السياسي، أو على مستوى الاختلاف بشأن كيفية وأساليب مواجهة الإرهاب الصهيوني الذي لا يتوقّف.
عبث العودة لخطاب مُطالبة الفصائل بالحوار وإنهاء الانقسام، وعبث الحديث عن الانتخابات العامّة، وعن إستراتيجيات مُوحّدة أو عن مخارج لهذا الوضع المزري.
إسرائيل دمّرت "اتفاقيات أوسلو"، وقطعت الطريق على أيّ إمكانية لتحقيق السلام، عَبر المفاوضات، وتعمل على تجريف كلّ إمكانية أو مؤشّر، لتحقيق "رؤية الدولتين"، وهي تدفع الصراع نحو دولة واحدة، محكومة لقوانين العنصرية، التي ترى الفلسطيني ضيفاً ثقيلاً ينبغي التخلُّص منه.
هذا يعني أنّ المشروع الوطني، الذي يقوم على هدف إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة العام 1967، وعاصتها القدس الشرقية وحلّ قضية اللاجئين، هذا المشروع لم يعد واقعياً، أو قابلاً للتحقيق ما يوجب إعادة تعريف هذا المشروع على أساس واقعي.
الواقعية، تستند إلى رؤية تقوم على تقييم للمشروع الصهيوني وأهدافه، وليس على ما يصدر عن المجتمع الدولي من خطابٍ ومُطالبات، محض كلامية، وأحياناً تستخدم كغطاء لتبرير سياسات مُنحازة للاحتلال ومُتواطئة معه.
هي عودة إلى الأُصول، وجُذور الصراع، فإذا كان الاحتلال الصهيوني العنصري الفاشي، لا يكفّ عن الإعلان عن ذلك فإنّ هذا يستدعي من الفلسطينيين، أن يعملوا على أساس ذلك، والأصحّ أنّ يُعلنوا عن ذلك، ويُحمّلوا إسرائيل تبعات هذا التطوّر الجذري الخطير مع ما يستدعي ذلك من إجراءات وتغيير في الهدف والأدوات.
لا أعرف سبباً وجيهاً، في ظلّ استمرار الانقسام، لبقاء منظمة التحرير الفلسطينية على ما هي عليه برنامجاً، وتكويناً، ودوراً.
في الواقع، لم تعد منظمة التحرير قائداً فعلياً للشعب الفلسطيني، ولم تعد إطاراً ائتلافياً حقيقياً على الأقلّ للفصائل التي لا تزال كما كانت تنتمي للمنظمة، باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
المنظمة غائبة عن الفعل، وعن الدور، وعن الحضور، وأراهن أنّ كثيراً من الناس بمن في ذلك المتابعون للشأن الفلسطيني، لا يعرفون أسماء أو حتّى عدد أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة.
قد يجد البعض مُبرّراً، لتراجع دور المنظمة، خلال العقود السابقة منذ توقيع "اتفاقية أوسلو"، لصالح تقدم دور السلطة الوطنية باعتبارها نواة الدولة، ولكن الأحداث والمتغيّرات، وفشل تحوّل السلطة إلى دولة، ينبغي أن يُعيد العِجْل إلى بطن أُمِّه.
المنظمة غائبة عن الفعل، إذ بالكاد تعثر على دورٍ لها في مخيّمات الشتات والمهاجر، بعد أن تكسّرت أذرعها، وتحوّلت مكاتبها وسفاراتها إلى هياكل تقليدية محكومة للعمل الدبلوماسي أكثر من العمل الكفاحي، وقد تصلّبت شرايينها إلى الحدّ الذي عطّل قلبها، وحوّلها إلى مؤسسة أقرب إلى مؤسسات المجتمع المدني.
إذا كان ثمة من يعتبر الانقسام قَدَراً على الأقلّ إلى حين، ويرى أنّ حركة حماس ، تعمل على مشروع "دولة غزّة"، وهذا أمر يحتاج إلى نقاش، وأنها لا تزال تقدّم نفسها بديلاً للمنظمة مع أنّ هذا، أيضاً، يحتاج إلى فحصٍ ونقاش، فلماذا لا يتمّ التوجُّه نحو لملمة صفوف فصائل المنظمة؟
ولماذا لا تُجرى الانتخابات للمجلس الوطني، وتجديد هيئاتها ومفاصلها وقياداتها، وإعادة بناء دورها القيادي للشعب الفلسطيني، خصوصاً بعد أن أصبح كلّ الشعب الفلسطيني (خارجاً وداخلاً)، منخرطاً في مشروع وطني واحد، حتى لو لم يتمّ تعريفه بجرأة وواقعية حتى الآن؟
لا يستدعي ذلك، بالضرورة، العودة لمناقشة وجود واستمرار السلطة أو حلّها، أو حتى إعادة النظر بوظيفتها، مع أنّ ذلك يشكّل استحقاقاً يتبع إعادة بناء المنظمة ودورها فربّما كان من الضروري إجراء عمليات التغيير المطلوبة على نحوٍ متدرّج.
غير أنّ الخطوة السابقة على موضوع منظمة التحرير، ينبغي أن تبدأ من حركة فتح، التي يترتّب عليها، استعادة دورها القائد للحركة الوطنية الفلسطينية، ذلك أنّها العمود الفقري والمُحرّك الأساسي للنظام السياسي بما في ذلك المنظمة.
حركة فتح معنية بلملمة صفوفها، واستعادة دورها في السلطة والمنظمة، وعلى صعيد العلاقات الفلسطينية، وهي بحاجة لتجديد قياداتها، وآليات عملها، والتكيُّف مع أشكال النضال التي يفرضها الميدان، وطبيعة الحرب التي تشنّها إسرائيل.