خرج خلال الأسبوع الحالي مئات الآلاف من الإسرائيليين للتظاهر في أكثر من مئة موقع، احتجاجا على استمرار الحكومة في تمرير خطة «تغيير القضاء»، حيث جرى يوم الاثنين الماضي، التصويت على أحد قوانينها الخاص بإلغاء «حجّة المعقولية»، ما يعني عمليا وقانونيا منع المحكمة من التدخل في قرارات وتعيينات الحكومة، مهما كانت غير معقولة. خلال المظاهرات جرى إغلاق طرق رئيسة وحدثت مواجهات كثيرة بين الشرطة والمتظاهرين، الذين اعتقل وجرح المئات منهم، بعد أن رفعت الشرطة من منسوب استعمال العنف في المظاهرات، تبعا لسياسة وزير الأمن القومي الفاشي إيتمار بن غفير، ما دفع حتى البيت الأبيض إلى إصدار بيان «توبيخ» للحكومة الإسرائيلية ودعوتها إلى احترام حق التظاهر.
وصدرت، بموازاة ذلك، بيانات وعرائض ورسائل من آلاف جنود وضباط الاحتياط هددوا عبرها بالامتناع عن الخدمة طالما تستمر الحكومة في سن قوانين «نسف الديمقراطية»، على حد قولهم. وأثارت هذه الدعوات غضب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن الجنرال المتقاعد يوآف جالانت، اللذين أدانا بشدّة رفض الخدمة واعتبراها مسّا خطير بأمن إسرائيل. وأصدرت الإدارة الأمريكية بيانا جديدا دعت فيه الحكومة الإسرائيلية إلى عدم المضي في تنفيذ مشروع «تغيير القضاء» والدخول بمفاوضات مع المعارضة للتوصل إلى توافق واسع، وأصدر الاتحاد الأوروبي كذلك نداء لاستئناف المفاوضات بين الحكومة والمعارضة في إسرائيل. أمّا محافظ بنك إسرائيل البروفيسور أمير يرون، فقد دق ناقوس الخطر الاقتصادي، محذّرا من الضرر الفادح الذي بدأ يلحق بالاقتصاد الإسرائيلي، جرّاء الخطة القضائية. ويبدو أن الخطر الأكبر من ناحية الدولة الصهيونية هو الخطر الأمني، وقد يكون في بعض مناحيه فرصة فلسطينية، من الممكن الاستفادة منها إذا أُحسن استغلالها، بالأخص في مجال ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، بعد أن يفقدوا حماية المحكمة العليا الإسرائيلية، التي تمنح الجيش الإسرائيلي وقيادته درعا واقيا من الملاحقة الدولية.
لا تنحصر أزمة الأمن الناجمة عن خطة «تغيير القضاء» في رفض الخدمة، إذ تخشى النخب الأمنية من أزمة اقتصادية تؤدّي إلى تقليصات واسعة في التسلّح والتدريبات
صراع حول الدولة
ما يحدث في إسرائيل هذه الأيام ليس مجرد نقاش عابر، بل صراع طاحن حول هوية الدولة الصهيونية ومفاصل الحكم فيها، بين اليمين المتطرّف، الذي تمثّله الحكومة وأحزابها، ويمين الوسط وبقايا اليسار الصهيوني. هذا من الناحية السياسية، أمّا اجتماعيا، فإن المحتجين هم العمود الفقري للدولة وللاقتصاد وللأمن وللنخبة العلمية والثقافية. فهم يشكّلون الغالبية الساحقة من العاملين في صناعة «الهاي تك»، التي أصبحت أهم الموارد الاقتصادية في إسرائيل، ومصدرا لنصف الصادرات وأكثر من ربع الضرائب. ووفق تقرير معهد «إس. أن. بي. آي» فقد تراجع الاستثمار في هذه الصناعة بنسبة 70% منذ بداية العام، مقارنة بالمدة نفسها من العام الماضي، ويتواصل الانخفاض في الاستثمار، رغم خروج السوق العالمية من حالة الركود وارتفاع الاستثمارات فيها مجددا. وقد هدّد عدد كبير من أصحاب شركات التكنولوجيا المتقدّمة بالانتقال إلى الخارج، ما قد يسبب ضربة موجعة للاقتصاد الإسرائيلي وخسارة كبيرة في مداخيل الضرائب وفرص العمل. من الواضح أن المجال الاقتصادي يتضرر من خطّة تغيير القضاء، لأن المستثمرين يخشون المقامرة برأسمالهم في ظل قضاء خاضع للحكومة وفاقد للاستقلالية وعدم استقرار سياسي.
أزمة الأمن
أكثر ما يقلق القيادة الإسرائيلية هو التداعيات الأمنية والعسكرية لخطّة «التغيير القضائي»، حيث قد تتحوّل هذه التداعيات إلى مشكلة كبرى، ووصل الأمر بزعيم حزب «المعسكر الرسمي» ووزير الأمن وقائد الأركان الأسبق الجنرال المتقاعد بيني غانتس، أن يحذّر من «حرب أهلية»، ومن ضربة كبرى للأمن الإسرائيلي إذا واصلت الحكومة تنفيذ مخططاتها. ربما تكون أقوال غانتس نوعا من التهويل لممارسة الضغط على أقطاب الائتلاف الحاكم، وربما تكون غطاء لدخوله في مفاوضات لإيجاد حلول وسط، ترفضها حركة الاحتجاج بشكل قاطع، لكن من الواضح أن الشرخ قائم وعميق ويتسع ويتعمّق باستمرار، وقد يصل إلى حالة أزمة فعلية في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. وقد رسم رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال هرتسي هليفي، خطّا أحمر أمام القيادة السياسية، وهو رفض خدمة من قبل مئات الطيارين، الذي يلحق أضرارا لا يستطيع الجيش تحمّلها. ولعل أوضح تجلّيات أزمة الأمن تبعا لخطة «التغيير القضائي» هو إعلان الآلاف من جنود وضبّاط الاحتياط عن نيّتهم رفض الخدمة، إذا جرى تمرير هذه الخطّة. وتنتمي الغالبية الساحقة من الذين أعلنوا ذلك إلى وحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي، وفي مقدمتهم طواقم سلاح الجو الإسرائيلي. وقد اجتمع 400 منهم، يوم الثلاثاء 11/7، مع مختصين في القضاء وقادة سابقين لسلاح الجو، لبحث كيفية وتوقيت وشروط القيام بخطوة جماعية دراماتيكية والإعلان عن رفض الخدمة. هذه قضية في غاية الحساسية للجيش الإسرائيلي، وحين صدرت، قبل شهور قليلة، مثل هذه الإعلانات من قبل عشرات الطيّارين سارع رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال هرتسي هليفي، إلى وزير الأمن يوآف جالانت ودعاه للعمل على وقف خطة «التغيير القضائي»، فقام جالانت بعقد مؤتمر صحافي دعا فيه لتجميد الخطّة، فقام نتنياهو بإقالته، ولكنّه تراجع تحت ضغط المظاهرات الغاضبة واضطر إلى تجميد الخطّة لعدة أشهر.
تنبع أهمية الطيارين من أن سلاح الجو هو رأس الحربة في الجيش الإسرائيلي وعماد التفوّق العسكري. هذا السلاح، دون غيره، يعتمد أساسا على طيّاري الاحتياط، الذي يشكّلون 70% من طيّاريه، الذين ينفّذون عمليات عسكرية بشكل دائم، ويجري تدريبهم وإعدادهم لمواجهة كبرى مع إيران، وليس هناك ما يخيف نتنياهو وجالانت والقيادة الإسرائيلية عموما أكثر من حصول تصدّع في سلاح الطيران الإسرائيلي. وفي محاولة لامتصاص غضب الطيارين، التقى قائد سلاح الجو الإسرائيلي الجنرال تامير بار، بحوالي 40 طيارا الاثنين الماضي، في معسكر «تل نوف» (وهو مطار أقامه الإنكليز عام 1941 على أراضي قرية عاقر شرقي الرملة وورثه الجيش الإسرائيلي). ووصف اللقاء بأنّه كان صريحا وعميقا ومتوتّرا، في ظل نية الطيارين إعلان رفض الخدمة إذا استمرت الحكومة في تمرير مخططاتها بشأن القضاء الإسرائيلي، وقال أحد الطيّارين في اللقاء «جئنا لخدمة المملكة وليس لخدمة الملك». وصدر كذلك هذا الأسبوع بيان مهم وقّع عليه المئات من قيادات سلاح الجو أعربوا فيه عن دعمهم لنية طياري الاحتياط رفض الخدمة.
وتنتشر دعوات النية لإعلان رفض الخدمة في أوساط جميع فرق النخبة في الجيش الإسرائيلي، إذ وجّه 300 من أفراد الاحتياط في وحدة «السايبر الهجومي» رسالة قيادة الجيش الإسرائيلي جاء فيها «نعلن عن رفضنا الفوري للخدمة.. لن نقوم بتطوير برامج لصالح حكومة مجرمة، ولن نساعد في تأهيل جيل المستقبل في مجال السايبر الهجومي». وصدرت رسائل مماثلة من مجموعات من الشاباك والموساد وشعبة المخابرات العسكرية ووحدات الكوماندو البحرية والبرية ووحدة التجسس الإلكتروني 8200 والوحدات الخاصة وغيرها. ويصل عدد الذين وقعوا على رسائل رفض الخدمة عدّة آلاف، ولو نفّذ هؤلاء تهديدهم فستحصل أزمة أمن جدّية في الدولة الصهيونية. هذه ليست مجموعات عشوائية، بل هي منظّمة ومرتبطة في ما بينها، وتتلقّى مساندة قوية من تنظيم «أخوة السلاح»، الذي له دور مركزي في إدارة وقيادة الاحتجاجات.
لا تنحصر أزمة الأمن الناجمة عن خطة «تغيير القضاء» في رفض الخدمة، إذ تخشى النخب الأمنية من أزمة اقتصادية تؤدّي إلى تقليصات واسعة في التسلّح والتدريبات، وهناك أيضا خشية من تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة، التي قد تنعكس على التعاون الأمني. وقد جرى تسريب خبر مفاده أن وفدا أمنيا إسرائيليا التقى مسؤولين أمريكيين وحاول طرح قضية الحصول على طائرات تزويد بالوقود، ولكن الطرف الأمريكي فضّل الحديث عن الأوضاع في الضفة الغربية وعن «التغييرات في الجهاز» القضائي. وأكثر ما تخشاه إسرائيل هو تطوّر ديناميكيات مستقبلية داخل الحزب الديمقراطي تفضي إلى فرض قيود على تزويد إسرائيل بالأسلحة. وفي مقال في «نيويورك تايمز»، طرح الصحافي توماس فريدمان المقرّب من بايدن ومن اليسار الصهيوني، مسألة قيام الإدارة الأمريكية بعملية مراجعة حسابات وتقييم من جديد للعلاقة بإسرائيل. ليس صدفة أن تتجنّد القيادات العسكرية والأمنية السابقة بشكل شبه كامل في معمعان الاحتجاج، فإلى جانب المعارضة المبدئية لهيمنة اليمين الشعبوي والمتطرّف، هناك خوف حقيقي من ضربة ومن أزمة في مجال الأمن. وقد أثار هؤلاء قضية إضافية في غاية الأهمية بالنسبة للفلسطينيين وهي أن خطة «تغيير القضاء»، ستؤدّي إلى نزع الغطاء الذي وفّره القضاء الإسرائيلي لمجرمي الحرب، ما يجعلهم عرضة للملاحقة وللمحاكمة في محكمة الجنايات الدولية. لقد ادعت إسرائيل (ومعها الولايات المتحدة) أن لديها قضاء قويا ومستقلا وعادلا يُسقط الحاجة لتدخل المحاكم الدولية، وقد صدّق العالم هذه الكذبة. أمّا بعد أن تُنهي الحكومة الإسرائيلية انقضاضها على جهاز القضاء وتقضي نهائيا على استقلاليته، فإن القيادات العسكرية الإسرائيلية ستكون عُرضة للتحقيق والمساءلة في محكمة الجنايات الدولية. هذه بالطبع فرصة كبرى يجب استغلالها فلسطينيا وعربيا، نعم عربيا لأن هذا حمل ثقيل وصعب على الفلسطينيين وحدهم.