- مراسلنا: 3 شهداء وإصابات نتيجة استهداف الطيران المسير لمجموعة من المواطنين في حي الزيتون جنوب مدينة غزة
لعل معركة مخيم جنين قبل أيام، ستدخل التاريخ باعتبارها لحظة التحول النوعي لتراكمات تتواصل في وعي وكفاح الشعب الفلسطيني منذ عام 2015. ولا توجد مبالغة في مقارنتها بمعركة الكرامة التي وقعت في آذار من عام 1968 ومثلت أول انتصار على الجيش الاسرائيلي الذي كان غارقاً في غروره الناجم عن انتصاره الساحق في عدوان حزيران عام 1967.
و لا يقتصر التحول النوعي هنا على حقيقة أن نتنياهو، وجيشه الضخم وحكومته الفاشية، فشلوا فشلا ذريعا في تحقيق أهدافهم بكسر مقاومة مخيم جنين وتصفية المقاومين وقاعدتهم الشعبية، بل وأيضاً في تحول الحاضنة الشعبية للمقاومة في مخيم جنين إلى حاضنة فلسطينية شعبية عامة في كل فلسطين التاريخية.
استخدمت إسرائيل في عدوانها على مخيم جنين الذي لا تتجاوز مساحته نصف كيلو متر مربع، بكثافة سكانية كبيرة مكونة من ستة عشر ألف لاجيء شردهم التطهير العرقي الإسرائيلي في أثناء نكبة عام 1948، أكثر من لواء كامل مكون من ألف وستمائة جندي بالمدرعات والدبابات وطائرات الأباتشي والصواريخ، وأسراب كاملة من المسيرات العسكرية ومنظومة استخبارات هائلة، وفشلت.
وكما قال مدير مكتب قناة الجزيرة في رام الله، وليد العمري، أن إسرائيل كانت تستطيع في السابق بهذا الكم من الجيش والعتاد أن تحتل دولة بكاملها، ولكنها عجزت عن كسر مخيم جنين، وانسحبت قواتها وهي تجر أذيال الخيبة، بعد أن ترجمت حقدها إلى تدمير شامل لبنية المخيم التحتية من طرق وشوارع، وشبكات كهرباء ومياه ومرافق صحية ومئات البيوت، وتجرأت على إطلاق الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع على المستشفيات، واعتدت على فرق وسيارات الإسعاف، وأطلقت الرصاص على الصحفيين، وتركت جرحى ينزفون حتى الموت من دون أن تسمح للفرق الطبية بالوصول إليهم.
ومع ذلك فشلت إسرائيل في اعتقال المقاومين أو تصفيتهم، وفشلت في تحطيم بنية المقاومة وتكبدت الخسائر حتى لحظة مغادرة قواتها للمخيم.
ولعل أهم ملامح التحول النوعي الذي شهدته الأيام الماضية في فلسطين يتمثل في عدد من النقـاط :-
أولاً: انضواء مئات الآلاف من الشباب الفلسطيني في أنشطة المقاومة بكل أشكالها، حتى صار مستحيلاً التمييز بين المقاومين المحترفين وآلاف الشباب المشاركين في المقاومة، وبذلك تحولت المقاومة المسلحة في الواقع إلى جزء من مقاومة شعبية شاملة.
ثانياً: تعزيز القناعة لدى الغالبية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني وبناته ، وفي ظل التوسع الاستيطاني المسعور، واعلان نتنياهو نيته اجتثاث فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، بأن لا سبيل سوى المقاومة والكفاح بديلاً لنهج المفاوضات الفاشلة واتفاق أوسلو البائس، والمراهنة على أطراف خارجية.
ثالثاً: لم يعد بإمكان إسرائيل حصر المقاومة في بؤر محددة مثل مخيم جنين والبلدة القديمة من نابلس، ومخيم نور شمس في طولكرم، بل تلقت إسرائيل الردود المقاومة على عدوانها على جنين من الخليل ورام الله ولبنان وقطاع غزة، وبكلمات أخرى صارت المقاومة ظاهرة فلسطينية عامة للشعب الفلسطيني بأسره وبغض النظر عن أماكن تواجده.
رابعاً: انتهت بالنسبة للفلسطينيين كل الأوهام بإمكانية الحصول على حماية دولية، أو مواقف رسمية دولية مؤثرة ضد الفاشية الاسرائيلية، في ظل إعلان الولايات المتحدة وبريطانيا دعمهم للعدوان الاسرائيلي ولما سموه "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، والصمت المريب للاتحاد الأوروبي العاجز عن صياغة سياسة مستقلة خاصة به، وتعمق الإدراك بأن الحل هو في الاعتماد على النفس وتنظيم النفس ومقاومة الاحتلال، وليس انتظار مساعدة الآخرين. وأصبحت الدعوات الرسمية الفلسطينية للحماية الدولية محل تندر شعبي، باعتبارها شماعة للهروب من المسؤولية.
خامساً: تعمق الغضب الشعبي العارم ضد التنسيق الأمني وكل عقيدته التي وُلدت مع اتفاق أوسلو، والتي تفرض على الأجهزة الأمنية واجب حماية المحتلين، وهي عاجزة عن حماية نفسها وشعبها من هؤلاء المحتلين أنفسهم.
وكان السؤال الذي يتردد شعبيا: لماذا لا تتصدى الأجهزة الأمنية لقوات الاحتلال التي تمر من جانب مقراتها في غزوتها لمخيم جنين، ولماذا لا تشارك في التصدي لاعتداءات المستوطنين الارهابية ضد الفلسطينيين كما جرى في الانتفاضة الثانية.
ولذلك صارت الدعوة لإنهاء التنسيق الأمني مع الاحتلال فعلياً، وليس شكلياً، نهائياً وليس لفترة مؤقتة، مطلباً شعبياً شاملاً، مثل المطالبة بوقف كل أشكال الاعتقالات السياسية وإفراج السلطة عن جميع المعتقلين السياسيين وعدد منهم من المقاومين.
سادساً: فُتح باب تحقيق الوحدة الوطنية على مصراعيه، من خلال الضغط الشعبي على القيادات الفلسطينية الرسمية والفصائلية بأن ترتقي إلى مستوى الوحدة الكفاحية التي صنعها المقاومون على الأرض.
وأثمر ذلك الضغط الشعبي عن دعوة السلطة الفلسطينية إلى عقد اجتماع للأمناء العامين للقوى الفلسطينية التي رحبت بها، وتصاعدت بالتوازي المطالب بألا يكون ذلك الاجتماع مجرد مناسبة شكلية لالتقاط الصور، أو لتخفيف الضغط الشعبي على السلطة الفلسطينية التي سبق أن ارتكبت أكبر أخطائها بإلغاء الانتخابات عام 2021.
وصار واضحاً أن المطلوب قبل عقد الاجتماع تأكيد الاستعداد لتبني خيار المقاومة والكفاح بكل أشكاله والتخلي عن نهج أثمر فشلاً كاملاً بعد انطلاقه بتوقيع اتفاق أوسلو قبل ثلاثين عاماً، والاستعداد للموافقة على أننا لسنا في مرحلة حل وسط مع الحركة الصهيونية بكل مكوناتها، بل في مرحلة نضال وكفاح ومقاومة لتغيير ميزان القوى لصالح الشعب الفلسطيني. و أهم مؤشر للجدية في الدعوة لاجتماع الأمناء العامين هو الاستعداد لتشكيل قيادة وطنية موحدة على استراتيجية وطنية مقاومة، و الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين السياسيين.
سابعاً: أفشل الشعب الفلسطيني ببسالة دسائس الاستراتيجية الإسرائيلية ومحاولات إثارة الفتنة، التي تركز على الفصل بين الشعب والمقاومة، والفصل بين الضفة والقطاع، وتعميق الشرخ والانقسام بين حركتي فتح وحماس، وتحريض القوى الفلسطينية ضد بعضها، وأثبتت الأحداث أن مخيم جنين لم يترك وحيداً بل شكل نقطة استقطاب للفعل النضالي المتكامل والموحد.
ثامناً: وفي الخلاصة فإن العدوان الاسرائيلي على مخيم جنين عاد بنتائج عكسية تماماً لما خطط له نتنياهو، إذ لم يؤد تصعيد القمع والقتل والاستيطان، وإعلان برنامج ضم وتهويد الضفة الغربية إلا إلى تصعيد المقاومة الفلسطينية وصعود جيل شاب فلسطيني أكثر عزماً وتصميماً وجرأة ومهارة والتزاماً بالمقاومة من أجل الحرية والكرامة.
فهل ترتقي القيادات هذه المرة إلى مستوى هذا الجيل الباسل ومستوى وحدته النضالية؟