لم تنته معركة جنين بما تمثله كجزء من الوطن وكفاح شعبنا والتي وصفها الرئيس "ابو مازن" بايقونة المقاومة خلال وجوده قبل أيام فيها وبين أهلها، في زيارة احتاجها شعبنا، لتؤكد على ضرورات تكامل الأدوار الكفاحية الرسمية والشعبية الجماهيرية وعلى الشراكة المفترضة بين كل القطاعات الجماهيرية في مواجهة الاحتلال وبالدفاع عن الحقوق والأرض.
لذلك لم تكن جنين حدثا عابرا بشهدائها وجرحاها وبيوتها، ولم تكن استثنائية من جهة اخرى وفق ما كانت عليه غيرها من المدن والمخيمات التي شكلت نموذجا للدفاع عن الكرامة ولوحدة الارادة لشعب ما زال يرزح تحت حراب الاحتلال، لشعب من حقه أن يقاوم الغزاة كما شعوب تلك الدول التي نالت استقلالها الوطني، في الوقت الذي تمنع حكومات تلك الشعوب وتحديدا الاوروبية منها، عنا، حق المقاومة وتطلب منا حماية أمن الاحتلال.
وبغض النظر عن اختلاف الظروف والمعطيات، الا ان تلك التجربة الثورية التي لخصت الصراع بأيام معدودة ، فان الاحتلال لم يستطع حسم المعركة فيها أو إطفاء شعلة المقاومة التي اصبحت تتقد فيها وفي كل مكان من مدن وقرى ومخيمات الوطن رفضا لهذا الاحتلال الاستعماري ونظام فصله العنصري الذي اكتوى به شعبنا منذ اكثر من سبعة عقود وحتى اليوم على مرأى ومسمع من العالم المسمى جزافا ب"الحر" .
ربما أن اختلاف الظروف الموضوعية والذاتية التي مرت بها حركات التحرر الوطني لشعوب اخرى لم تستدع هذه العقود الطويلة من الزمن لإنجاز مهامها . بل ولربما لم تشهد ظروف كفاح شعوب اخرى تعقيدات وتداخلات مختلفة مثل تلك التي رافقت وما زالت قضيتنا الوطنية، بل ولم نر عبر التاريخ الماضي القصير ظروف استعمار احلالي استيطاني يَدعي بملكية الارض على حساب وجود ومقدرات شعب آخر هو صاحب الأرض الاصلاني ، وتساعده قوى الاستعمار في حل ما رافق مسألة وجود مجموعة تتبع ديانة محددة في مجتمعات لا تسودها ديانتهم، من خلال تقديم حل المسألة اليهودية بالمجتمعات الأوروبية والعربية على السواء على حساب شعبنا الفلسطيني وفق الوعد التوراتي المزعوم وباعتبار فلسطين أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض ، فكان ذلك شكلا من الاستغلال السياسي الاستعماري للمسألة الدينية خدمة لمصالح الفكر السياسي المرتبط بدول الاستعمار منذ مئة عام وما قبل وفق مخططات المسيحية الصهيونية وما ارتبط بها من حركات سياسية ومالية ما زالت فاعلة حتى اليوم تَدعي الديانة كهوية قومية مُضطهدة بين باقي البشر ، لا تقبل بحل المسألة اليهودية كمعتقد ديني أسوة بديانات اخرى في مجتمعاتها الاصلية .
واليوم وبعد تلك العقود من الزمن فان العالم جميعه لم يبق كما كان بالأمس ، وهو اليوم يدخل مرحلة جديدة من المتغيرات على امل ان يصل الى تعددية القطبية لانهاء الهيمنة الاميركية التي ساهمت في استعباد الشعوب. ان مواءمة المتغيرات هي امر حيوي ونهج مطلوب لحماية الشعب والقضية، فالجمود لا يخدم التطور ، حيث الازمة والتراجع يعم كل الحركة الوطنية الفلسطينية لاعتبارات مختلفة يدرك اسبابها كل الوطنيين ، والمجال لا يتسع لاستعراضها في هذه العجالة من المقال .
ان المخططات التي لم تنته بعد لضرب فكر وجوهر الحركة الوطنية الفلسطينية المتمثل بدحر الاحتلال، وهي المسألة الأساس ، قد بدأ التخطيط لها منذ ٥٦ عاما من عمر الاحتلال بعد جريمة النكبة والتطهير العرقي، فترة قدم خلالها وما قبلها شعبنا تضحيات كبيرة ، الأمر الذي انعكس على المجتمع العام وترك اثاره على واقع حياتنا حتى اليوم ، إضافة إلى تعقيدات المشهد السياسي العربي والدولي وما رافق ذلك من محاولات حصار وتحجيم منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد لشعبنا في كافة أماكن تواجده، بل ولمحاولات مستمرة لإيجاد دمى البدائل منذ روابط القرى مرورا بأشكال مختلفة وادوات متعددة حتى اليوم. كل ذلك رافقه استمرار ممنهج لتنفيذ حلم الحركة الصهيونية العالمية "بارض إسرائيل الكبرى"، بمقابل ما كنا نعتقد به من إمكانية الوصول للسلام وتنفيذ الحل الأممي وفق مبدأ حل الدولتين، الذي رافقته المراوغة تحت ذريعة إدارة الأزمة وتحسين شروط الحياة والحلول الاقتصادية والامنية التي أدارت حيثياتها الولايات المتحدة بتبعية أوروبية عمياء رغم بعض المواقف اللفظية بحق سياسات وجرائم الاحتلال دون عقوبات ومحاسبة الأمر الذي ساهم باستدامة الاحتلال وفرض وقائع الاستيطان الكولنيالي على الارض بالضم والبناء المستمر لانهاء إمكانية إقامة الدولة ذات السيادة والمتواصلة جغرافيا على كافة الأراضي التي احتلت عام ٦٧ بما فيها القدس والاغوار وغزة ، بل وساهمت في ما يحقق الآن دولة المستوطنين اليهود على معظم أراضي الضفة الغربية وإبقاء التجمعات السكانية الفلسطينية في كانتونات محاصرة ومنعزلة .
وبعد أيام وعلى اثر دعوة الرئيس، سيلتقي الامناء العامون للفصائل بالقاهرة في وقت تشتد به مخاطر مشروع الصهيونية الدينية في حسم الصراع على الأرض من خلال جرائم تطهير عرقي جديد وإطباق السيطرة اليهودية على المناطق المصنفة "ج"، وهي ليست أقل خطرا بحكم الوقائع من كل تلك السياسات التي انتهجتها حكومات دولة الاستعمار الإسرائيلي بحق شعبنا منذ نشأتها كنظام مارق فوق القانون الدولي وادت إلى ما وصلنا له اليوم .
واليوم أمام منهج الصلف إلاسرائيلي وتصاعد جرائم الاحتلال وبشاعة الفكر الصهيوني العنصري والفوقية اليهودية وانحدار حالة المجتمع الإسرائيلي اكثر إلى العنصرية والفاشية الدينية ورفض الكل الصهيوني اليهودي لفكرة السلام اصلاً سوى قلة منهم غير صهيونية واغلبها بالشتات، وسعيهم إلى تنفيذ المشروع الصهيوني كاملا على كل أرضنا الفلسطينية، بل وضبابية واقع المجتمعات اليهودية المختلفة في دولة الاحتلال أمام ما يبدو من انفراط عقدهم الاجتماعي الذي ميز شكل نظامهم بالبدايات فلا وضوح إلى أين ستتجه الأمور في هذا النظام الاستعماري وماذا سيحدث ذلك من اثر على واقع شعبنا الفلسطيني اذ ما ذهبت الأمور الى حافة خطها بالحرب الأهلية بين قطاعات المتدينين والعلمانيين الليبرالين وكلاهما أصحاب فكر صهيوني لا يريد أن تتسع هذه الأرض لغيره الا ضمن شروطه ومعادلته بالفصل العنصري .
ان مواجهة ذلك يتطلب تأكيد لقاء الامناء العامين بالقاهرة على التمسك برؤية إنهاء الاحتلال أولاً كبداية الطريق نحو ما يأخذنا لاحقا لامكانيات وجود فرص للسلام عند تغير الظروف الدولية ، وصمود شعبنا وتمكينه من العيش الكريم وتمسكنا بارضنا واستعادة الثقة بين قاعدة مكونات المجتمع المتنوعة والقيادة واعتماد إجراءات تُعزز من الآليات الديمقراطية والمشاركة الشعبية ودورها كمصدر للسلطات، وتصعيد المقاومة الشعبية فعلاً لا قولاً والتي اقرتها القوانين الدولية للشعوب الخاضعة للاستعمار، والعمل بالانفكاك عن الاحتلال بكل المعاني وتحديد العلاقة القائمة معه على قاعدة التناقض والصراع وفق قرارات الدورات المتعاقبة للمجلس المركزي لمنظمة التحرير .
ان ذلك يجب ان يترافق مع توسيع قاعدة تحالفاتنا مع الشعوب والقوى التقدمية وانصار الحرية والديمقراطية والسلام بالعالم والدول المناصرة لحقوقنا الوطنية ولقضايا العدالة والسلام خاصة مع التحولات الجارية باوساط الرأى العام العالمي من صورة إسرائيل العنصرية الدينية اليوم .