في هوامش ضيقة ومحطات قليلة، كان للفلسطينيين إرادتهم المستقلة في تاريخ الصراع مع إسرائيل، أي في صناعة القرار الفاعل والفعل الفاعل في مراحل تطور القضية الفلسطينية، تلك الهوامش الضيقة والقليلة إحتوت على النضال بالكفاح المسلح والسلمي والعصيان والصمود وكان الفلسطينيون يعتقدون كما في كل حركات التحرر في القرن الماضي أن هذه الأدوات النضالية قادرة على حسم الصراع وتحقيق الإستقلال كما في كل حالات الاستعمار للدول الأخرى والذي ثبت عدم كفاية ذلك "نتيجة طبيعة الصراع مع المشروع الإستيطاني الدولي الصهيوني"، حين اكتشف الفلسطينيون لاحقا أنهم لا يواجهون اسرائيل فقط بل هم يواجهون حالة غريبة عن نماذج الإستعمار وأن اسرائيل مشروع دولي وكبير وليس احتلالا مؤقتا من دولة استعمارية يمكن أن يقاوم فيندحر ويرحل، أو يستوعب فيفكر في حل مرض كجنوب أفريقيا.
الهوامش الكبرى الأوسع والأهم وأكثر المحطات تأثيرا كان نصيب الفلسطينيين فيها يكاد يكون معدوما ، هذه الهوامش التي تتعلق "برسم السياسات في الصراع والمنطقة والأقليم والعالم والتحالفات والمصالح فيما يتعلق بمسار القضية الفلسطينية" بدءً بالعرب وقومية "الأساس" في الصراع كصراع عربي إسرائيلي، ومرورا بالإقليم ومتناقضاته الاسلامية والإثنية والطائفية أيضا، ، ومرورا أيضا بتشكل التحالفات الدولية وحروب الاستقلال والتحرر في المنطقة فيما بعد الحرب العالمية الثانية وصراع السوق النقدي والنفطي ومجمل الحراك الاقتصادي، وتقدم نظام اقتصادي أو تراجع آخر أو تقدم أيديولوجيا وتراجع أخرى، وليس انتهاءا بقرارات الأمم المتحدة وتشكل منظمات حقوق الإنسان والمجالس التمثيلية الدولية والإقليمية.
ظلت الهوامش الضيقة المتاحة للفلسطينيين من كفاح ومقاومة للإحتلال ضعيفة منذ بدء الصراع وأجاد فيها الفلسطينيون رغم شح مواد النضال من أدوات التسليح وضعف العنصر الاقتصادي من قبل الداعمين والمؤيدين وبؤس ادارة ذلك والتناحر الفلسطيني الداخلي المستمر منذ النشاشيبي والحسيني حتى عهد فتح وحماس و تلك الحالة بمجملها لم تحسم صراعا كهذا طوال الوقت لإختلال ميزان القوة وسوء الادارة وإدراك الألاعيب والفخاخ المنصوبة.
في غالبية حالات التاريخ الاستعماري للدول المحتلة تحررت بالكفاح والمقاومة، نعم، وبالتأكيد، لكن طبيعة المشروع الصهيوني وهوامش القضية الفلسطينية الواسعة والمتضمنة خصوصيات وتدخلات إقليمية ودولية اوسع من اي قضية أخرى، كانت الهوامش الاوسع تأثيرا في نتائج الصراع أكبر بكثير، ودعم عالمي واسع متمكن علميا واقتصاديا وحضاريا وانحيازهم بالدعم في مجلس الأمن والدعم المادي والتسليح حمى وقوى الاحتلال ودولة الاحتلال ما أثر بشكل جوهري كبير وفظيع على مسار القضية الفلسطينية لصالح المحتل ودولته مقابل تراجع الدور العربي لعدم قدرته على محاربة ربائب اسرائيل، ولم ينجح الدور العربي هو الآخر في تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني ودفعوا من أراضيهم ودمائهم ونموهم فاتورة كبيرة طوال مدة الصراع حتى بدت الصورة على ما نحن فيه الآن من تقدم وتوسع المشروع الصهيوني.
ما أردت قوله باختصار أن وعينا بعد كل هذه السنين أدرك أن فلسطين كارض أو كدولة قابلة للحياة بالقوة والمقاومة رغم لزوم المقاومة كدفاع عن النفس "لكن ليست وحدها لإنجاز تحرير واستقلال" لم تعد تنفع واستمرار الهتاف ورفع شعار ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة والمتنامي في كل مرحلة يعود إليها البعض تضيع معه الأرض نتيجة لاكتشاف أن المشروع الصهيوني ليس يهوديا أو اسرائيليا يتعلق بمجموعة دينية أو اسرائيلية جاءت لتسكن هذه البلاد بل هو مشروع تقف خلفه وتدعمه دول وجماعات واقتصاد عالمي بلا حدود، وهذا يحتاج إدارة صراع ليس في هوامش الحرب والقوة والمقاومة التي درجنا عليها وهي هوامش ضيقة في طبيعة الصراع بل على الفلسطينيين البحث الجدي في الهوامش الأوسع من رسم سياسات المنطقة وتحالفاتها ومصالحها رغم فشل عملية السلام الهشة "أوسلو" التي كان للفلسطينيين أيضا هامشا ضيقا جدا للقرار والإرادة والاستمرارية فهل يستطيع العرب والفلسطينيون اقتحام الهوامش الأوسع لطبيعة الصراع وانتاج حلولا أفضل للفلسطينيين وللعرب لأن طبيعة الصراع كانت صراع عربي إسرائيلي جغرافي ديمغرافي وليس صراعا فلسطينيا اسرائيليا أرادته اسرائيل ومنظومة الصهيونية أن يكون هكذا، وتطور هذا الصراع لنكتشف أنه فعلا صراعا عربيا صهيونيا له مآرب كبرى تركناها بفهم قاصر طيلة ما يقارب ثمانية عقود رغم ترديدنا اللفظي والعاطفي بخطورة الصهيونية والذي توضح الآن بأن اسرائيل ليست هي ما نراه في قوات عسكرية واحتلال شوراعنا بل هو مشروع تحميه قوى كبرى وجماعات وأموال عالمية قوية شرسة قادرة على الادارة والتخطيط والتنفيذ .. هذا ليس احباطا بل عصفا للذهن العربي لاقتحام هوامش الصراع الأوسع بإدراك مختلف وفهم جيد للسياسة وأدواتها بجانب الامكانيات والقدرات المهملة وليس على النجدة هيا يا رجال ونعود في كل مرة مهزومين نضرب كفا بكف.