للسبت السابع والعشرين ينزل الإسرائيليون إلى الشارع في تظاهرات بحشود لم تعهدها دولتهم في تاريخها، وقد بدأت تلك التظاهرات بعد أسبوع من تشكيل حكومة نتنياهو الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل.
لم تكن تلك الحكومة التي ضمت عتاة المتطرفين كباقي حكومات إسرائيل بيمينها ويسارها بل تميزت بضم حزبين صغيرين هما: القوة اليهودية الذي يترأسه إيتمار بن غفير وريث كهانا وكذلك حزب الصهيونية الدينية برئاسة بتسلئيل سموترتش.
هذا التيار اليميني الجارف الذي نجح في الانتخابات كانت لديه تصورات عن بنية الدولة وهويتها، وهو يعتبر أن المؤسسات القائمة يجب إضعافها وتحطيمها لأنها تشكل قيداً على الحكومة وتيار الحكم الجديد من الذهاب نحو فرض تصوراته، وهو يركز على المنظومة القضائية إذ تشكل عائقاً أمام تمكين هذا التيار من تنفيذ رؤيته ليعلن منذ اليوم عن نيته لتغيير القوانين، ما عرف بـ «الثورة القضائية» والتي تزعمها وزير العدل ياريف ليفين.
فوراً كان الشعب الإسرائيلي يندفع للشارع بعشرات الآلاف رافضاً، كانت المرة الأولى في السابع من كانون الثاني لتتحول إلى تقليد في كل سبت.
ومنذ أكثر من ستة أشهر لم تتراجع التظاهرات التي تنتشر في مدن عدة أبرزها تل أبيب بل زاد المحتجون من إصرارهم على وقف التعديلات القضائية فقد اقتربت التظاهرات الأخيرة من الاشتباك والضرب ورش الماء والسجن.
أن تنجح التظاهرات في وقف الثورة القضائية أم لا أمام خيار الائتلاف بالاستمرار بمشروعه يهم الإسرائيليين وأصدقاءهم، بينما يهم خصوم إسرائيل أن يستمر الائتلاف في فرض رؤيته وهم يراقبون التراجع الذي تشهده الدولة في كل مناحي حياتها بدءًا من التفسخ الاجتماعي والاقتصادي وصولاً لقوة الردع وصورة الدولة وعلاقاتها الخارجية.
لكن السؤال الجارح للفلسطينيين مطروح أمام ما يرونه على الجانب الآخر من الجدار، ففي دولة أجرت انتخاباتها الديمقراطية وبمجرد المساس بالنظام القضائي هب الإسرائيليون كمن لدغتهم أفعى للدفاع عن هذا النظام والذي لا يعني المساس بالمواطن بشكل مباشر.
لماذا لا يتحرك الفلسطينيون أمام المساس بكل شيء منذ الصراع الذي دار بين كبرى الحركات الفلسطينية.
بالنسبة للفلسطينيين لا تجري الانتخابات ولم يتحرك الشارع، وبقي محيداً نفسه ومعتمداً على الفصائل لإنهاء مأساته.
وفي فلسطين لم يتم تدمير المنظومة القضائية فقط بل تم تدمير كل النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والوطني ومنظومة الحريات، ولم يتوقف الاعتقال السياسي وملاحقة المخالفين وبلا برلمان منتخب أو حكومة تجيء بعد اقتراع وهو حق طبيعي لكل مواطن أن يمارسه لكن تصادره القوى الكبرى بقوة السلاح.
هذا الواقع وتلك المفارقة كانت تثير العديد من المراقبين والكتاب. كيف يغرق الواقع الفلسطيني حد الرثاء في ظل صمت شعب يدفع من لحمه ودمه يومياً ثمن هذا الواقع ؟. السؤال للوهلة الأولى يبدو منطقياً، ولكن التدقيق في الحالتين الإسرائيلية والفلسطينية يمكن أن يفسر عجز الحالة الشعبية الفلسطينية عن أخذ مصيرها بيدها والتحرك لفرض إرادتها التي بدت للحظة في حدودها الدنيا.
الحقيقة أن الشعب الفلسطيني منقسم مثله مثل الفصائل، وهو موزع بأغلبيته على الحركتين الكبيرتين فتح وحماس وقد تمت رشوة الجزء الأكبر من الشعب في المؤسسات التي تقودها الحركتان بالوظائف والرواتب والصلاحيات، وهذا الجزء الأكبر يحتكر وحده كل مقومات القوة سواء الشعبية أو العسكرية والأمنية أو المالية والإعلامية. وإلا لماذا يتحرك الشعب الفلسطيني ضد إسرائيل في تظاهرات الجدار وفي جنين ونابلس ولا يتحرك ضد الخراب الداخلي الذي دمر كل مؤسساته وحياته اليومية وقصم ظهر قضيته الوطنية ؟
بعد أحداث 2007 الدامية انغلق المشهد الفلسطيني المأساوي على حكمين واحد في الضفة والآخر في قطاع غزة، وقد وفر هذا الانقسام فرصة معقولة لكل منهما بأن يحكم منفرداً بلا معارضة وفي هذا ما يلبي رغبة تتماشى مع الثقافة الإقصائية القائمة وفقاً للتراث السياسي العربي.
وقد تمكن هذا الشكل الجديد والشاذ من تأمين مصالح نخب جديدة أصبحت ترى مصلحتها في استمراره.
وهذه النخب التي تمتلك كل عوامل القوة للحفاظ عليه بما فيها القوة الشعبية التي يعول عليها البعض في التصدي لهذا الخراب تحولت تلك القوة إلى ضامن لاستمرار الخراب وإلى منفذ لتعليمات من لديهم مصالح إدامته.
التحرك الشعبي ميؤوس منه أمام التدقيق بالجزئيات ودراسة توزيع القوى في المجتمع الفلسطيني التي تميل بمجملها لصالح الطبقات المستفيدة من بقاء هذا الواقع شديد الصعوبة. ولو قامت جهة شعبية بالتظاهر ستقمعها جهة شعبية مدججة وأكثر قوة بل وتدعي الشرعية التي تمكنها مع ما تملكه من ترسانة إعلامية ووسط الواقع الملتبس أن تشرعن القمع الشديد باسم الأجندات الخارجية «حفاظاً على المقاومة في غزة أو المشروع الوطني في الضفة».
فشل الشعب الفلسطيني في إنهاء حالة الانقسام الشاذة، وفشل في بناء مؤسساته وفشل في وقف التدهور وفشل في الضغط على القوى للتصالح وفشل في انتزاع الحد الأدنى من حقوقه باختيار من يحكمه.
لم تكن هذه مصادفات وبمعزل عن الإرادة الإسرائيلية في تأبيد الحالة لكن هناك ما هو أكثر تعقيداً في الداخل الفلسطيني أن الشعب نفسه جزء من الأزمة يعمل لدى المستمرين بهذا الانقسام ...ولا عزاء للشعوب المسكينة ..!