منذ النكبة ونشأة القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ظلت غزة دومًا الرافعة الوطنية، التي دفعت أثمانًا غاليةً من التضحيات، لصون الهوية الوطنية مما تعرضت وما زالت تتعرض له من محاولات الإلحاق والطمس والتبديد والتصفية. فهنا في غزة ومخيماتها وأد الفلسطينيون عام 1955 مشروع توطين اللاجئين في سيناء، حيث تمكنت الانتفاضة الشعبية من تحدي منع التجوال الذي كان قد فرض على القطاع، وأُجبرت السلطات المصرية الحاكمة في حينه على إلغاء اتفاقها مع الأونروا، مستجيبة بذلك لمطالب انتفاضة الإجماع الشعبي، التي شملت أيضًا تدريب وتسليح المخيمات الفلسطينية لتتمكن من الدفاع عن نفسها، وفرض التجنيد الإجباري وتشكيل جيش وطني فلسطيني، بالإضافة إلى محاكمة المسئولين عن الأمر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وقتل الشهيد حسني بلال، وكذلك إطلاق الحريات العامة، وعلى رأسها حرية الاجتماع والتعبير والإضراب.
وهنا في غزة بدأت المقاومة المسلحة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد أيام قليلة من احتلال الضفة والقطاع إثر هزيمة العرب عام 1967.
وفي شوارع مخيمات القطاع نهضت ظاهرة الفدائيين العلنية لسنوات طويلة في حقبة السبعينيات. وأيضًا هنا اندلعت شرارة الانتفاضة الشعبية الكبرى في ديسمبر 1987، لتعم ليس فقط أرض فلسطين التاريخية.
فهل ستنجح حكومات إسرائيل بعد ذلك التاريخ المجيد لشعبنا في تحقيق أهدافها بتحويل الانقسام الذي خُطط له بإحكام لوأد الكيانية الوطنية وإمكانية تجسيد دولة فلسطينية مستقلة بفصل القطاع عن الضفة الغربية التي تستباح أرضها بالاستيطان؟
السؤال المقابل: هل الحركة الوطنية الفلسطينية، التي تمكنت ثورتها المسلحة منذ معركة الكرامة 1968 من استعادة زمام المبادرة لقيادة النضال الوطني بعيدًا عن الوصاية والالحاق؛ ستستمر في حالة العجز والتفكك والتسليم بحالة الاستقطاب المدمرة على ضفتي الانقسام، وبما يسهل موضوعيًّا على حكومة الاحتلال تمرير مخططاتها التصفوية، التي لم تعد مخفية وتسير على قدم وساق لإخضاع سلطتي الانقسام، ومحاولة كسر إرادة الشعب في مواجهة تلك المخططات؟.
في وقت تسير فيه محاولات إسرائيل للتوصل إلى ما يسمى بالهدنة طويلة الأمد مع سلطة حماس في قطاع غزة تحت ضغط الحصار ومقابل إجراءات ذات طابع اقتصادي لإغراء حماس بإدامة حكمها للقطاع، وبينما تتواصل أيضًا حالة العجز وقلة الحيلة إزاء ما تسعى إليه إسرائيل لترسيخ الوظيفة الأمنية للسلطة الفلسطينية مقابل إجراءات لمنع انهيارها، فإن هبّات الشعب الفلسطيني التي تنهض دفاعًا عن القدس ومن أجل إنهاء الاحتلال، تكاد تتنزع مشروعية حقها في المقاومة، كما حسمت ذلك في وعي الإجماع الشعبي معارك مخيم جنين الأخيرة، وقبلها بلدة نابلس القديمة والعديد من المناطق والمخيمات والبلدات الفلسطينية في سائر أرجاء الضفة المحتلة .
صحيح أن أهل القطاع يشعرون بالتعب، وربما بالخذلان من تركهم وحيدين يواجهون نتائج الحصار الإسرائيلي القاسي والظالم، تحت عباءة الصراع الانقسامي الذي تديره إسرائيل، و تحركه المصالح الفئوية للمهيمنين على المشهد الانقسامي، إلا أن من يعرف تاريخ القطاع الكفاحي وعناد مقاومته منذ النكبة تحت راية استعادة اسم فلسطين ومكانة قضيتها، فعليه أن يتعلم ذلك التاريخ ويراجع حساباته، تمامًا كما عليه أن يستخلص عبر هبَّات القدس ومقاومة جنين ونابلس وغيرها من المناطق، وما تراكمه من وعي يكاد ينبئ بانطلاقة جديدة لحركة وطنية ذات سمات شمولية خاصة، سيما في ظل وهم حكومة نتانياهو سموتريتش بن غڤير التي لا تقتصر أطماعها على مجرد الضم وفرض كانتونات انتقالية، بل تستهدف أيضًا الاقتلاع والتطهير العرقي وفق الشريعة التوراتية، والتي لا تستثني إطلاقًا أبناء شعبنا في الجليل والمثلث والنقب، وكل من يعارض فكرها الأصولي العنصري، بما في ذلك من قبل بعض الإسرائيليين، وذلك في سياق أطماعها في العودة لمشروع إسرائيل الكبرى من النيل الفرات، الذي مازال يدعو له حاخامات إسرائيل ويحلمون به، كما صرح بذلك قبل أيام الحاخام اليهودي المتطرف اليعازر ميلاميد بشأن حدود إسرائيل التي، من وجهة نظره، يجب أن تمتد من نهر النيل في مصر إلى الفرات في العراق.
منذ أن وطأت قدماي قبل يومين أرض القطاع، لعقد لقاءات شبابية ينظمها مركز الأرض للأبحاث والدراسات، والتي أعطتني أيضًا فرصةً، بل حلمًا بأن أطلق كتابي “غزّاوي.. سردية الشقاء والأمل” أولاً من قلب غزة، حيث يسرد الكتاب كيف قاومت النكبة ونهضت نحو الثورة والانتفاضة؛ عادت بي الذاكرة كيف صنع اللاجئون الفلسطينيون من بؤس الحياة أفقًا وأملاً. وكما أسقط أسلاف هؤلاء مشروع التوطين، فإن عيون أطفال المخيمات، ورغم ما يلفها من بؤس، تشع إرادة وأمل، بأن مخططات عزل غزة وفصلها عن الكيانية الوطنية الجامعة لن تمر، وستظل غزة بإرادة هؤلاء الشبان قلب فلسطين الذي ينبض بحق العودة، كما تنبض القدس ومخيم جنين وسائر أرجاء الضفة، بل والجليل والمثلث والنقب بفلسطينية وعروبة المكان رغم التواطؤ والخذلان .
في الثلاثين من هذا الشهر يلتئم في القاهرة لقاء متكرر لما يسمى بالأمناء العامين المستقطبين على ضفتي مشهد الانقسام، فهل يدرك هؤلاء حجم المخاطر على قضية شعبهم، تمامًا كما تختمر في ثنايا المواجهة الشعبية لهذه المخاطر من تراكمات ينهض بها الشعب الفلسطيني لمواجهة المؤامرة التي لا تستهدف سوى تصفية الجميع .
ربما أن مسؤولية خاصة تقع على عاتق حركة الجهاد، التي نأت وتنأى بنفسها عن الصراع على السلطة، بأن تعي مضمون الفرصة التي قدمتها لها الحاضنة الشعبية على امتداد الوطن، وألّا تسمح هي والجبهة الشعبية، بفشل الفرصة التي تبدو وكأنها الأخيرة لمثل هذا الاجتماع الذي يفقد مصداقيته، كما فقدت الحركة الوطنية دورها في مواجهة الاحتلال تحت غبار معاركها على سلطة لم يعد لها دور سوى مجرد البقاء لحماية مصالح الانقساميين على حساب الشعب وقضيته.
حركة الجهاد التي التحمت مع نبض الناس الذين يكتوون يوميًا من الاحتلال والانقسام، لديها الفرصة بأن تكون هي والجبهة الشعبية ضميرهم دون حسابات كما دأبت، من أجل الخروج بخطوات تعيد للحركة الوطنية المتجددة في هبات الشعب دورها، وللنظام السياسى المتآكل على صعيد المنظمة والسلطة عافيته التي لا تقوم سوى بالوحدة والديمقراطية لتصويب الكفاح الوطني تحت قيادة منظمة التحرير الائتلافية، وتعزيز صمود الناس كأولوية عليا لحكومة وحدة انتقالية. نحن بالتأكيد على موعد مع ولادة جديدة؛ إما الوحدة والديمقراطية العاجلة، أو حركة شعبية شاملة تستعيد القضية ومكانتها من فكي الانقسام ومخططات التصفية .