بُني مشروع أوسلو على مكانة وقدرات النظام السياسي الفلسطيني، "نظام منظّمة التحرير"، فنجح المشروع بالمرور في البداية وقطع خطوات مهمّة نحو بلوغ أهدافه.
بفعل الحاجة إلى تكييف الحالة الفلسطينية مع المشروع، وتأهيلها للمضيّ فيه قدماً، دخل تطوير جديد على النظام السياسي الفلسطيني، فصار نظاماً مزدوجاً، القديم وعنوانه وإطاراته وهياكله منظّمة التحرير، والجديد وعنوانه السلطة وإطاراتها وبرلمانها المنتخَب، ورئاسة... وحكومة تنبثق من الاثنين.
النظام المزدوج.. جسّد وحدته ياسر عرفات، من خلال رئاسته لكلّ مكوّناته، فهو رئيس الحكومة ورئيس السلطة ورئيس المنظّمة، مع رئاسة غير مباشرة للبرلمانَيْن، القديم، أي المجلس الوطني، من خلال النفوذ الطاغي لحركة "فتح"، والجديد، المجلس التشريعي، من خلال الأغلبية المحسومة التي تأتمر بأمره، وقد انسحب نفوذه المركزي على الحالة الفلسطينية بكلّ مكوّناتها، وظلّت الأمور هكذا إلى أن توفّاه الله.
في المسار الذي كان يقوده عرفات بالجملة وبالتفصيل، جرت محاولة لإرخاء قبضة الرجل على النظام المزدوج، حين أسّست الرباعية الدولية حكومةً برئاسة محمود عباس، تتمتّع باستقلالية نسبية عن عرفات، إلا أنّ المحاولة فشلت مع بقاء هيكلها قائماً لكن تحت النفوذ المطلق لعرفات، وفيما بعد النفوذ المطلق لعبّاس، أي الرئيس!
كان تقدُّم العملية السياسية، ولو ببطء، يحمي النظام المزدوج، ويبرّر سياساته الداخلية والخارجية، ليس لمتانته أو جودته، وإنّما لحاجة المشروع الكبير إليه، إذ بدونه لا أمل أن يقطع خطوة واحدة.
غير أنّ سلبيّةً جوهريةً كانت تنمو تدريجياً داخل النظام المزدوج ومن حوله، وهي ارتباط مقوّمات وجوده وفاعليّته مصيريّاً بفاعلية مشروع السلام، فإن مضى قدماً فالنظام يبقى على قيد الحياة، وإن تعثّر.. يتعثّر.. ويقف على حافة الانهيار.
انهيار أوسلو... والنظام؟
عملية أوسلو التي أنجبت ازدواجية في النظام السياسي الفلسطيني لم تتعثّر بل انهارت، وتوخّياً للدقّة في التشخيص فقد انهار البعد السياسي الرئيسي فيها، وبقيت الهياكل التي أنتجتها، مع اختلاف جذريّ في المحتوى. إذ غُيّب البعد السياسي تماماً وحلّ محلّه البعد الأمني ثمّ الاقتصادي، وهذا أدّى عملياً إلى استقرار أوراق اللعبة في اليد الإسرائيلية وحدها، فهي ذات القوّة الأمنيّة الطاغية والنفوذ الاقتصادي القادر وحده على التأثير.
إنّ تغيُّر محتوى مشروع أوسلو على النحو الذي آل إليه وضَعَ السلطة والنظام المزدوج أمام حالة تكاد تكون مستحيلة وأمام مطالبات أميركية وإسرائيلية لا يستطيعان أداءها، وكان أشدّها صعوبةً المضيّ قدماً في التزامات أوسلو الأمنيّة، وذلك بعدما تجرّدت من مبرّراتها وحيثيّاتها السياسية.
كان باستطاعة السلطة أداء مهامّ أمنيّة، حتى لو بدت محرجة ومدانة، ما دام باستطاعتها القول إنّني أفعل ذلك كممرّ إجباري للحصول على الدولة المستقلّة. أما وقد أضحت الدولة مرفوضة تماماً من الطرف الآخر، فلم يعد بوسع السلطة أداء مهامّها الأمنيّة وفق التصاميم الإسرائيلية والأميركية الجديدة.
لم يجرِّد انهيارُ البعد السياسي لأوسلو السلطةَ من منطقية مواصلتها العلاقة الأمنيّة مع إسرائيل فحسب، بل أعطى خصومها المحليّين مزايا ثمينة، ومنها ملء الفراغ السياسي بالسلاح. وذلك اقتطع الكثير الكثير من نفوذ السلطة ليس فقط على الحكم، وإنّما على ما هو أقلّ من ذلك، أي الإدارة، فباتت عاجزة عن توفير الحدّ الأدنى من متطلّبات جمهورها، ومن بينهم منتسبوها.
السلطة وإن رغب بعض النافذين فيها أن يواصلوا اللعبة القديمة بمناخها ومعطياتها الجديدة، لعلّ تطوّراً يحدث فيعيد المسار القديم إلى الحياة، إلا أنّ رغبتها ساذجة وسلوكها في هذا الاتجاه معزول وعبثيّ.
ليست كلّ السلطة على قلب واحد، ولأنّ أساس الآلاف الذين يعملون فيها "وطنيّ"، من حيث الثقافة والانتماء، فالرهان الإسرائيلي والأميركي على أن تعمل ما هو مطلوب منها هو نوع من تحميلها ما لا طاقة لها بحمله، وسيكون المآل الحتميّ التفكّك والانهيار.
إذاً هي لا تريد مواصلة اللعبة بشروطها الجديدة الشديدة القسوة والتعجيز، ولو أنّها تتظاهر بذلك، وإن أراد النافذون فيها تحت رهان أن يحمل الغيب ما ينقذ الموقف، فهم لا يستطيعون الوفاء بالحدّ الأدنى المطلوب لذلك، وإن استطاعوا فبفعل حقن التقوية والإغراءات والوعود. فهم لا يعرفون كيف يؤدّون المهامّ المطلوبة منهم بفعل تآكل الأدوات وغياب الحافز والمبرّر، وتنامي نفوذ المناوئين المحليّين وانفضاض رعاة المشروع القديم عنه وعنهم.
أخيراً: الضغط على السلطة كي تُدخل الجمل من ثقب الإبرة، هو جهد ضائع، وعلى الذين يفعلون ذلك أن يبحثوا عن وسائل أخرى.
عن الشرق الأوسط