من حق المواطن الفلسطيني في قطاع غزة أن يسأل: كم من الوقت نحتاج لتتحسن أحوالنا المعيشية ونشعر بالأمان والاطمئنان على مستقبل أبنائنا؟ وهل هناك من فرج قريب يلوح في الأفق، أم أنَّ الحال هو استمرار المراوحة في المكان بلا أملٍ أو أمنيات!!
أمَّا سؤال النخبة المثقفة (الأنتليجنسيا) المثقل بالإحباط والخيبة وعدم الثقة فيتمحور حول: إمكانية تواجد نوايا وإرادات جديدة للنزول عن الشجرة بعدما تطاول جذعها، وتشابكت أغصانها، ويبست التربة من حولها، وكأني بها آيلة للسقوط وحدها!!
إنَّ السؤال الذي يتكرر على ألسنة الكثير من العامة والخاصة، وبلغة الملامة والعتاب: لماذا تغيب المبادرات ولا نسمع الكثير من المقترحات الجديدة، وحتى إن حدث ذلك فسرعان ما يتم طمسها والإجهاز عليها أو تهميشها؟! والحبل -للأسف- متروك على غاربه للتخمينات والمزيد من الاتهامات، والسوءِ من النيَّات الذي يبيته هذا الطرف أو ذاك!!
إنَّ من بين الأسئلة المشروعة التي تخص حركة حماس في هذا المقام، هي السر وراء تأخر الحركة في قطاع غزة عن طرح مبادرة أو عرض مقاربة ترفع عنها الحرج، واتهامات الشارع لها بأنها لن تتنازل عن السلطة أو حتى فتح الباب للشراكة فيها، رغم أنَّ هناك الكثير من المحاولات التي انتهت باجتماعات وابتسامات عريضة، والنتيجة كانت (تيتي تيتي.. زي ما رحتي جيتي)!!
اليوم، تجاوز عمر حركة حماس في مشهد الحكم والسياسة السادسة عشر عاماً، وشكوى الناس هنا في قطاع غزة ما زلت قائمة: لماذا تعطلت الحياة السياسية فلا أحزاب جديدة ولا انتخابات بلدية أو نقابية حتى ولا طلابية!! والانتخابات المهنية التي جرت -على قلَّتها- كان يغلب عليها طابع (الكولسات الحزبية)، التي لا تمت للحياة الديمقراطية أو نكهتها بشيء!! أما أجيال الخريجين الجامعيين خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة -وهم بعشرات الآلاف- فلسان حالهم أن الديمقراطية كانت شعاراً في حياة آبائنا الأولين!!
ومع هذه التساؤلات التي نطرحها، يفرض هذا التساؤل نفسه: أليس من حق هذه الأجيال أن تتمتع بحياة كريمة، وأن تكون جزءاً من الفعل الديمقراطي وتشهد تنافساتٍ حقيقية يكون لها دور فيها لصناعة مستقبل بلادهم وتقرير مصيرها؟! هل المطلوب من هذا الجيل الاستسلام لرؤية الفصائل لكي يعيش، حتى لو استدعاه الأمر أن يكون منافقاً سياسياً وبلا كرامة إنسانية؟!
إنَّ من المؤسف حقاً، أننا كنَّا قبل سنوات الانقسام نجري انتخابات بلدية وأخرى تشريعية، ولكنَّ حسابات هذا الطرف أو ذاك عقَّدت المشهد وأفشلت المحاولة، وعدنا لمربع المناكفات وتبادل الاتهامات، والشارع أصابه الذهول؛ لأنَّ الحقيقة كانت واضحة، ولم ينجح غربال فتح وحماس في حجبها عن الجماهير.
اليوم، السؤال المطروح على حركة حماس كوننا نعيش في دائرة ولايتها الإدارية والأمنية، وقد تحللنا من الاحتلال، وقرارنا نملكه بأيدينا، وآليات التنفيذ إن توفرت الإرادة السياسية والوطنية لفصائل الكلِّ الفلسطيني هي الأخرى طوع رغباتنا.. ففي قطاع غزة، نجحنا في إخراج الاحتلال من حياتنا، وأن قرارنا السياسي غدا منذ العام 2005 رهن إرادتنا، وقد سبق أن أجرينا انتخابات تشريعية وكانت لحركة الحماس الغلبة فيها، وتمكنت -بارتياح- من تشكيل حكومة باسمها.. للأسف، في 14 يونيو 2007 تعثرت الأمور، ووقعت المواجهات المسلحة، حيث سالت دماءٌ كثيرة وتعمَّقت الخصومة والجراح.. حاولنا تجاوز الكارثة ورأب الصدع بتوقيع اتفاق مكَّة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، إلا أنَّ الجهود لم تُكلل بالنجاح، وأخفقتنا في معالجة خلافاتنا الداخلية، وخسرنا جميعاً الحفاظ على وحدة الوطن، وعاد التربص بلغة التهديد والوعيد، حتى اتسع الخرق على الراقع إلى يومنا هذا.
اليوم.. المرحلة والتساؤلات!!
بعد 16 عاماً من وصول حركة حماس إلى مشهد الحكم والسياسة، وصمودها في وجه ما تعرض له قطاع غزة من كافة أشكال الحرب والعدوان الإسرائيلي والتآمر الدولي والتواطؤ الإقليمي، فإن هناك أسئلة ثلاثة لا يمكن التهرب منها أو تجاهلها، وعلى قيادة الحركة -في سياق الضرورة- أن تقدم إجابات لها، حفاظاً على حيوية النقاشات داخل الحاضنة الشعبية، إذ ليس هناك محرمات تُقيِّد من مساحات الحوار أو تحدد ما هو مسموح أو محظور تناوله فكرياً ووطنياً، ويمكن للمواطن ونخبه السياسية في ظل عالم التساؤلات وغرابة السياسات والمواقف، أن يرفع عقيرته بالسؤال: إلى أين نحن ذاهبون؟ وما هي محطتنا القادمة؟ وهل إلى خروج من سبيل؟ وهل من حقي أن أصرخ وقد أنهكني شعور المُكِّب على وجهه؟ وهل هناك -فعلاً-من أملٍ بنهاية هذا الانقسام، ورؤية جموعنا على صراط مستقيم!!
إنَّ أمامنا أربع تحديات مقدور عليها، وعلينا المباشرة بها لخلق حراكٍ وطنيٍ يمكن أن يُمهد الطريق إلى مستقبل أفضل لقطاع غزة ولمشروعنا الوطني بشكل عام، وقديماً قالوا: "إذا صدق العزم وضح السبيل". ولذلك، فالتحديات "المقدور عليها" تتمحور حول أربع توجهات، وهي:
التوجه الأول: الانتخابات البلدية
اعتقد أنه ليس هناك ما يمنع حركة حماس من إجراء هذه الانتخابات، أسوة بما عليه واقع الحال في الضفة الغربية، بل ربما الحاجة هنا أكثر أهمية، كون قطاع غزة تديره حماس، وهو ما يجعل الغرب والعديد من الدول الأوروبية خاصة تتحفظ عن تقديم المساعدات الإنسانية والمعدات الحيوية لبلديات القطاع. وهذه ذرائع لا يمكننا أن نحاججهم بها؛ لاعتبارات القوانين الغربية التي تحد من حرية تصرفهم إنسانياً بذريعة محاربة الإرهاب.
إنَّ الانتخابات البلدية هي محاولة ذكية لسدِّ باب الذرائع، وفتح المجال أمام القطاع للاندماج في المجتمع الدولي، وعدم حشر حركة حماس -كفعل مقاوم- في الزاوية.
إنَّ الانتخابات البلدية لو جرت فستفرز تجمعاً وطنياً يمثل الكلّ الفلسطيني، وسيتحمل هذا الكلُّ المسؤولية كاملة وليس حركة حماس وحدها.
التوجه الثاني: الشراكة في إدارة الحكومة
بعد 16 عاماً من إدارة حركة حماس لقطاع غزة، ألم يأت ِ الأوان لشركاء الوطن أن يكونوا جزءاً من تشكيلة إدارة الشأن الحكومي. نعم؛ هناك لقاءات للجنة العمل الوطني والإسلامي، ولكن مثل هذه اللقاءات لا علاقة لها بإدارة الشأن العام، ولا تعكس روح الشراكة والمشهدية الوطنية. لذلك، فإن المتوجب أن يكون هناك اختيار لشخصيات وطنية حزبية أو تكنوقراط داخل تشكيلة لجنة العمل الحكومي، ويتم تحريك هذا الاختيار تبعاً لمعطيات الكفاءة والمهنية والشراكة الوطنية.
التوجه الثالث: انتخابات الكتل الطلابية
ليس هناك ما يمنع إجراء انتخابات داخل المعاهد والجامعات، رغم حالة الاستقطاب المنتشرة فوق ربوع الوطن، وقد شاهدنا حدة التنافس الشديد في أوساط الكتل الطلابية بجامعات الضفة كالنجاح وبيرزيت والخليل، ولكنها -بصراحة- كانت "مشرقة"، بغض النظر عمن تصدر نتائج القوز فيها من فتح أو حماس، ولكنها حقيقة تصلح نموذجاً للانتخابات الوطنية العامة.
أتمنى ألا يضع طرفاً قيداً أمام انطلاق مثل هذه الانتخابات، وأن تتجهز لها كافة الأطراف بالجامعات الفلسطينية في قطاع غزة.
التوجه الرابع: فتح الباب للعمل السياسي الحزبي
إنَّ الهدف الأساس من وراء ذلك هو تنشيط الحياة السياسية وإعطاء الفرصة لظهور كيانات وقيادات سياسية جديدة، فالحياة السياسية يجب أن تستعيد حيويتها باحتضان جيل من الشباب الواعد داخل إطارات تنظيمية غير تلك التي أُفرغت من محتواها، بسبب سنوات القطيعة والفشل.
إنَّ الكثير من الدول تعطي الأولوية للتنمية السياسية، وحثّ الشباب على المشاركة في الانتخابات والعمل السياسي، لما لهذا الأمر من أهمية في عملية التداول السلمي للسلطة وتحقيق الأمن والاستقرار.
ختاماً.. الانتخابات البلدية في قطاع غزة هي اليوم مطلبٌ مُلّحٌ، وليس هناك ما يستوجب المماطلة فيه، ولن يشكل إكراهاً لحركة حماس بل ضرورة لتخفيف الأعباء عنها، وتقديم شكل من أشكالِ الشراكة في إدارة الشأن الوطني العام.. نتمنى ألا يمضي هذا العام إلا وقد تمَّ إتخاذ القرار الحاسم بإجراء الانتخابات البلدية قبل نهاية العام القادم.