إقرار «الكنيست» لقانون تقليص المعقولية، يوم الاثنين المنصرم، بموافقة أربعة وستين عضواً، أقفل صفحة جدلية واسعة لتبدأ صفحة أخرى، فإقرار القانون يشكّل بداية لسنّ مجموعة أخرى من القوانين التفسيريّة التي ستؤدّي للإطاحة بدَوْر القضاء.
إقرار القانون أصبح أمراً واقعاً، والحديث عن توجُّه بنيامين نتنياهو لخوض حوارات ومفاوضات جديدة، بحثاً عن تعديلات عليه، تضمّن توافقاً بين كافّة الأقطاب، هذا الحديث مجرّد ذر للرماد في العُيون، ومحاولة مكشوفة لتخفيف ردود الفعل الدولية والداخلية.
«الكنيست» دخل في عطلة صيفية تمتدّ لشهرين، ليست كافية للتوصُّل إلى توافق جمعي، بعد أن انقضت أشهر من المفاوضات جعلت زعيم المعارضة يائير لابيد يصرّح بأنّ إمكانية التوصُّل إلى تسوية أصبحت مستحيلة. واقعيّاً، لو أنّ نتنياهو يرى إمكانية تعديل في القانون قبل إقراره، بما يضمن التوافق، لما استعجل البتّ في «الكنيست»، وكان بالإمكان توفير مخارج منطقيّة للتأجيل.
خضع نتنياهو لتهديدات وزير «العدل» ياريف ليفين، ووزير «الأمن القومي» إيتمار بن غفير، أو هكذا بدا الحال، ذلك أنّ نتنياهو هو الآخر، كان صاحب المصلحة الأولى والأساسية في «الانقلاب الديمقراطي».
رفض نتنياهو الاستجابة لطلب رئيس الأركان هرتسي هليفي، باللقاء قبل التصويت، ولثلاثة أيّام قبل التصويت رفض أن يستمع لتقديرات الجيش والأجهزة الأمنية، ما نجم عنه شُعور بخيبة أملٍ كبيرة من قبل الجيش إزاء سلوك رئيس الحكومة.
كانت الضغوط هائلة على نتنياهو وحكومته، إذ لم تُقصِّر إدارة بايدن في التحذير وتقديم النصح بتأجيل اتخاذ القرار، ونحو إتاحة الفرصة لتوافق جماعي لحماية إسرائيل، ولكن نتنياهو رفض الاستماع. ورفض الاستماع، أيضاً، لتحذيرات حلفاء إسرائيل «الغربيين»، الذين يخشون على إسرائيل من نفسها، حتى بدا وكأنّ العالم كلّه، ينتابه خوف شديد، من انهيار الجبهة الداخلية في إسرائيل.
ومضى نتنياهو قُدُماً نحو حسم الملف في «الكنيست» بالرغم من اتّساع دائرة الاحتجاجات، والتمرُّدات، والتهديدات، بالامتناع عن الخدمة العسكرية، من قبل قطاعات واسعة في الجيش والأجهزة الأمنية.
نتنياهو الذي لا يعدم الحيلة والوسيلة، لن يتراجع عن هدفه وسيحافظ على أن يستمرّ ائتلافه إلى نهاية الفترة، ما يجعل تهديد بيني غانتس، بأنه سيجرف كل وقْع حين يشكّل الحكومة، مجرّد كلام فارغ.
خلال السنوات المتبقية من عمر حكومة نتنياهو، قد لا تتاح الفرصة لغانتس أو غيره، للفوز في الانتخابات بما يتيح له تشكيل حكومة طالما أنّ إسرائيل دخلت مرحلة الديكتاتورية.
أوّل التراجعات ظهرت في الولايات المتحدة، حيث أعلن وزير الخارجية أنتوني بلينكن بعد إقرار القانون، أنّه لن يكون هناك تقليص أو ضرر في المساعدة الأمنية لإسرائيل، والتي تبلغ ثلاثة مليارات وثمانمائة مليون دولار سنوياً.
ستتبدّد الانتقادات والاحتجاجات الدولية، خصوصاً من الدول الاستعمارية الداعمة لإسرائيل، ومن غير المرجّح أن تنتقل من الكلام إلى الأفعال طالما أن السيّد الأميركي قال كلمته.
النقاش بعد إقرار قانون تقليص المعقولية، بدأ يأخذ حيّزاً واسعاً في الوسط الإعلامي والسياسي والعسكري، بشأن مدى الضرر الذي يلحق بالجيش بسبب اتساع دائرة المستنكفين عن الخدمة من ضباط وجنود الاحتياط، وما إذا كانت ستمتدّ لتشمل المنخرطين في الخدمة.
فحسب «يديعوت أحرونوت»، فإنّ تهديد الطواقم الجوية بإخلاء مواقعهم تحوّل من نظري إلى عملي، حيث بدأ ذلك بشكل مبدئي لدى قيادة أسراب الطائرات.
في ضوء ذلك، تقول صحيفة «إسرائيل اليوم»، إن «الكابينت» سيجتمع في مطلع الشهر القادم، لإجراء مشاورات ويلقي إحاطة وتقييمات حول الضرر الذي يخلقه رفض الخدمة العسكرية.
غير أنّ مسؤولاً أمنياً يرى أنّه لا ضرر حتى الآن فيما يتعلّق بالقدرات العسكرية ضد غزة أو جنين.
هذه التقديرات تعني أن جيش الاحتلال يعاني فعلاً، ولم يعد مؤهّلاً لخوض مواجهة على جبهات متعدّدة، لكنّه مؤشّر، أيضاً، على احتمال أن تبادر إسرائيل لشنّ عدوان على جنين أو غزّة خلال أيّام قادمة، حيث إنّ الجيش سيكون قادراً على التعامل مع أيّ من هاتين الجبهتين.
لا يُبدي نتنياهو اهتماماً، للالتماس الذي تقدّمه «المعارضة» لـ«العليا»، المشكوك في أن تتّخذ قراراً معاكساً لقرار «الكنيست»، أو أن تكون قادرة على إنفاذه، وقد يؤدي ذلك إلى الإطاحة بالمستشارة القضائية للحكومة غالي بهاراف ميارا أو بالمحكمة ذاتها.
الأزمة تشتدّ وتتفاقم، وقد تتّخذ تعبيرات عنفية، تندفع نحو حربٍ أهلية قال إيهود أولمرت، إنها بدأت بالفعل.
إزاء ذلك فإنّ ثمة تساؤلا حول السلوك الذي ينبغي أن يتبعه الفلسطينيون. المنطق والصحيح سياسياً، ألا يُبادر أيّ فصيل فلسطيني، لتصعيد المواجهة، بما في ذلك في الضفة وغزّة.
سياسة الدفاع عن النفس، هي الخيار الأفضل حيث تتآكل الجبهة الداخلية الإسرائيلية، والمنظومة السياسية والعسكرية، ذلك أنّ نتنياهو وحكومته هم أصحاب المصلحة في تحويل الأنظار والسلوك نحو ما يمكن اعتباره خطراً قوميّاً.