قبل أن يزداد هذا العنوان غموضاً على غموض، دعوني أشرح المقصود:
المقصود هو "الارتفاع" الكبير في منسوب المُراهنات على أن يتحول "التطبيع" المنتظر بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل برعاية كاملة من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى مراهنة "استراتيجية" كبيرة، والنظر إلى هذا "التطبيع" باعتباره "الممكن" السياسي الوحيد الذي من شأنه تغيير، أو إحداث تغيير في معطيات الصراع ومعادلاته، وبما سيُفضي في نهاية الأمر إلى صفقة سياسية تاريخية لحل هذا الصراع.
ومع أن هذا "التطبيع" يمكن في ظروفٍ معينة أن يؤدي، وأن يُفضي فعلاً إلى مثل هذه النتيجة، إلا أن مثل مراهنة كهذه، قبل الهزائم الكبيرة الثلاث، والانتصار الصغير الواحد إنّما هو أحد أشكال الوهم، وينطوي الأمر على مخادعة وخديعة، وعلى حسابات خاطئة، هذا إذا لم نقل، إنه ينطوي على سذاجة في مرحلة لم تعد تحتمل السذاجة.
عندما يطالب الصحافي الأميركي الكبير توماس فريدمان، ويناشد رئيسه بايدن، وولي العهد السعودي برفض "الصفقة" التي يتحدّث عنها "الجميع"، فهذا يعني أن مثل هذه "الصفقة" ستكون خشبة إنقاذ للحكومة الإسرائيلية الحالية، حكومة "اليمين" العنصرية، بحيث تحصل هذه الحكومة على "مكاسب" كبيرة مقابل ثمن بخس، وستكون النتيجة تكريس سيطرة هذه الحكومة والتحكُّم الكامل بكلّ متطلّبات فرض الحل الإسرائيلي للصراع، والكلام في مضمونه كله هو كلام فريدمان المقرب جداً من دائرة صُنع القرار في واشنطن.
الاستنتاج الأوّل، وهو استنتاج منطقي وعلمي في آنٍ معاً هو أن الإدارة الأميركية تحوّل "الصفقة" من دائرة الحلّ الممكن إلى دائرة الحلّ المستحيل، وتصبح لـ"الصفقة" (مهمّة) استخدامية وتوظيفية، وهي فاقدة لأي "أهلية" استراتيجية باتجاه الحل، فيما إذا أصرّت على هذه "الصفقة" بوجود حكومة "اليمين" العنصري، وإذا عُقدت هذه "الصفقة" بوجود حكومة كهذه في إسرائيل، وإذا عُقدت هذه "الصفقة" قبل إسقاط هذه الحكومة، لأن فرصة نجاحها في ظلّ بقاء هذه الحكومة هي فرصة معدومة، بل إن فرصة ألا تتحوّل هذه "الصفقة" إلى نسف الحلّ، من أي نوع كان هي، أيضاً، ضئيلة، وربما مستحيلة.
وهكذا فإن "الصفقة" هي "فاشلة" سلفاً قبل إسقاط حكومة "اليمين" العنصري في إسرائيل، وهي "صفقة" فاشلة، أيضاً، بوجود بايدن على رأس الإدارة الأميركية الحالية والقادمة.
والهزيمة الكبيرة الأولى "المطلوبة" لنجاح "الصفقة" هي سقوط بايدن في الانتخابات القادمة، إضافةً إلى ضرورة وحتمية سقوط الحكومة الحالية في إسرائيل.
أقصد أنّ "نجاح" "الصفقة" بات منوطاً بهذا السقوط. أمّا من ناحيةٍ أخرى فإنّ سقوط بايدن في الانتخابات القادمة في الولايات المتحدة يمكن أن يؤدي إلى "عودة" الرئيس السابق دونالد ترامب، ما يعني عودة الصراع في الإقليم إلى حالة الفوضى الشاملة، وذلك لأنّ "عودة" "اليمين" إلى سدّة الحكم في الولايات المتحدة سيكون بمثابة كارثة سياسية، وذلك على الأقلّ لأن هذا "اليمين" سيكون على كامل الاستعداد لـ"الحسم" الكامل، وفي أسرع وقتٍ، وهو لن يتمكّن مطلقاً من "إنجاز" هذا "الحسم" دون الدعم الكامل والشامل من القوى الرجعية والعنصرية في الولايات المتحدة من أتباع "الصهيونية المسيحية" التي ستلتقي مع "الصهيونية الدينية" حتماً عند منتصف الطريق!.
أقصد أن من السذاجة الاعتقاد بأن سقوط بايدن الذي سيؤدّي إلى عودة ترامب يمكن أن يحسّن من فرص "صفقة التطبيع" بين العربية السعودية وإسرائيل، وأن من السذاجة أكثر أن تكون العربية السعودية بانتظار هذه العودة، وذلك لأنّ الموقف السعودي برمّته لم يعد يرتبط، ولم يعد يربط استراتيجيته للتحوّل إلى دولة إقليمية قائدة ورائدة بهذا المحور أو ذاك في الولايات المتحدة في ضوء التحولات الدولية الجارية، وهو موقف تجاوز برأيي كل هذه المنظومة من التفكير، وانتقل إلى خانة "الواقعية السياسية" القائمة على المصالح والتوازنات والفرص، والمؤسّسة على حسم "النِّزال" مع "الوهّابية"، وعلى متطلبات التحوّل إلى دولة حديثة لها مخططاتها التنمويّة الاستراتيجية التي ستستحيل عملياً في ظل سياسات المحورة النهائية، أو التموضعات المحسومة، أو حتى "المضمونة" لأي محور دولي.
وهكذا فإن هزيمة ترامب هو شرط ضروري تماماً، كما هي هزيمة بايدن لنجاح "صفقة" حقيقية قادرة على إحداث فرق جوهري في صراع الإقليم.
وهكذا، أيضاً، فإن هزيمة "الرئيسين"، وسقوط حكومة التطرُّف "اليميني" في إسرائيل أصبحت ضرورية للحديث عن نجاح "صفقة التطبيع" في تغيير معادلات وحسابات الواقع في الإقليم.
أمّا الهزيمة الثالثة الكبيرة فهي وصول "الغرب" قبل الانتخابات الأميركية إلى "استنتاجات" حقيقية باستحالة هزيمة الدولة الروسية، واستحالة بقاء النظام الدولي "لعبة" بيد "الغرب"، وبقاء وسائل السيطرة والتحكُّم والهيمنة بالعالم ومُقدّراته على ما هي عليه حتى الآن.
في هذه الحالة، ستكون إسرائيل أمام وقائع جديدة، وحينها فقط يمكن القبول الإسرائيلي بتنازلات جوهرية، وليس حلاً عادلاً أو شاملاً للصراع، وذلك لأن "مقايضة" هذه "التنازلات" مقابل المكاسب الاستراتيجية التي تحقّقها إسرائيل تصبح ممكنة، وتصبح قويّة الحضور في الشارع الإسرائيلي، ويبدأ مسار جديد في إسرائيل قائم على مقايضة "نفعية" مقابل "طموحات" مؤسّسة على الطغيان والقوّة والفوضى، وعلى أيديولوجيا انعزالية، وعلى ممكنات دولية أعلى للتخلي عن دولة دينية رجعية بدلاً من دولة ليبرالية، ويمكن محاصرة عنصريتها بالوسائل السياسية والضغوط والتحفيزات والردع إذا تفاقم الوضع.
أمّا الانتصار الصغير فهو أن تتمكن الرسميّات الفلسطينية من لملمة الوضع الفلسطيني، وهي لملمة مستحيلة قبل أن تغادر الرسميّة الفلسطينية الشرعية مُربّع المراهنة على حلول حقيقية أميركية وهمية، قبل نُضج ظروفها الموضوعية، وقبل أن تتبلور شروطها الذاتية، وهي مستحيلة، أيضاً، قبل أن تغادر حركة حماس مُربّع الاستقواء بحاجة إسرائيل إلى الانقسام للعب بالمشروع الوطني الفلسطيني وتحويله إلى "شمّاعة" للحصول على بقاء وتواجد "حماس" بصرف النظر عن كل مكونات ومقوّمات الحقوق والأهداف الوطنية.
وهذا الانتصار على صغره من زاوية ما يُفترض أن يكون بديهياً، إلا أنه انتصار مهم وكبير بمقارنة نتائجه مع حالة التردّي التي وصلت لها العلاقات الوطنية الفلسطينية، وحالة الانسداد التي يعاني منها "التيار الثالث" بسبب قَبوله بدور التبعية والذيلية السياسية، ومن حالة مُزرية من التتبيع والتطويع الناتجة عن قبوله المُشين بمعادلة الانخراط في الحالة الاستقطابية المدمّرة التي نعاني منها.