منذ عقود، لم تحكم فلسطين نفسها، فقد مرت عليها غزوات واحتلالات، وفرض عليها حكام وإدارات، إلا أنها ظلت بمثابة المعدن الذي يحتفظ بخصائصه وصلابته دون أن يذيبه أي ماء.
منذ بدء الخليقة، لم تكن فلسطين بالمقاييس التقليدية – العسكرية والإقتصادية، أقوى من الذين تناوبوا على احتلالها وبسط سيادتهم عليها، من الإمبراطورية العثمانية إلى الإمبراطورية البريطانية ثم الإمبراطورية الأمريكية، من خلال ذراعها العضوي إسرائيل، لم تذب هذه البلاد صغيرة المساحة، وقليلة السكان والمحاطة بكيانات أكبر منها، وأكثر استقراراً.
كان معدنها الأصلي "فلسطينيتها" وخيارها الدائم، عروبتها، وكانت على أتم استعداد لدفع ثمن كل ذلك حتى لو كان القبض على الجمر والمعاناة الدائمة من الخذلان.
فما هي كلمة سر هذا الإنجاز العميق والعظيم، الذي يصدق عليه عنوان "تعايش الأمل مع الألم".
الأمر كله في حالة كهذه، يبدو مخالفاً للمقومات التقليدية للقوة التي يتمتع بها من يملكون القدرة على بناء الامبراطوريات وحكم شعوب أخرى، فهو أمر يتعلق بالناس، وفي فلسطين فُرض على ناسها أن يتدبروا شؤون بقائهم والحفاظ على معدنهم وانتمائهم باعتمادٍ يكاد يكون مطلقاً على الذات مهما بدت الإمكانيات محدودة... أقيمت مدن وقرى واتسعت حتى صارت بلاداً يصعب على أي طامع اخضاعها فما بالك ابتلاعها.
وتبلور مجتمع متماسك أدار علاقاته بذكاء وحكمة وأخلاقيات لا يمكن الخروج عنها، فتأسست قوانين مستمدة من الحاجة إلى العدل، في غياب عدالة الدولة، أسماها آباؤنا وأجدادنا بالعشائرية أو القضاء العشائري، الذي وإن كان هناك من يعترض عليه، إلا أنه ملأ فراغ غياب السلطة الرسمية ومحدودية نفوذها، فعالج بكفاءة قضايا الشرف والدم والتعدي على ممتلكات الاخرين، وإذ ما راجعتم نصوصه، وهي مدونة على كل حال في كتب مرجعية، فسوف تجدون أحكاما عادلة، لا استثناءات فيها، ولم تغب عنها أي قضية نشأت في حينها. وإذا كان "القضاء العشائري" إنجازاً أملته الحاجة، فاحترام الناس له والتقيد بأحكامه كان بمثابة الإنجاز المكمل الذي ضمن الوئام واستقرار العلاقات. ذلك لا يعني أبدا إنتفاء الحاجة لقوانين مدنية ومحاكم وقضاة، ذلك أن تطور الحياة والمؤثرات المستجدة على الناس، تحتم وجود قوانين متطورة ومحاكم وقضاة يبتون فيها، مع أداة قوية وفعالة وعادلة لإنفاذ القوانين وفرض التقيد بها، والإذعان لأحكام القضاء فيها. فللقضاء العشائري الذي أملته الحاجة والفراغ الرسمي دور، وللقضاء الأحدث والأشمل كل الدور، ولا يضر أبدا أن توجد الصيغة الإيجابية الرابطة بين الاثنين. فالجهد العشائري الذي يبذل لحماية الوئام ومعالجة ردود الفعل في حينه دور نحتاجه في كل الظروف، وما نحتاجه أكثر قوانين مدنية تغطي كل شؤون حياتنا، ومحاكم وقضاة وأدوات إنفاذ الأحكام، ولا خلاف بين الجهد العشائري التطوعي والمبادر والبناء. وبين القانوني والقضائي الحديث والملزم، على أن تكون أحكامه خالية من أي استثناء.
ما الذي حفزني على كتابة هذه المقالة، واختيار الخليل عنواناً لها، والخليل هنا وما سأعالجه مجرد نموذج لوطن ومجتمع هي جزء منه.
منذ مدة يساور الوطن قلق يهدأ مرة ليثور مرة أخرى، وهو الاقتتال بين عائلتين، في مدينة ما زال للاعتبارات والتقاليد العائلية مكانة مؤثرة في الفعل ورد الفعل، كانت الأمور تتطور حد الخوف من إراقة دم، وتدمير منشآت، ما لا يعني فقط خسارة إقتصادية محققة في مدينة نوعية في هذا المجال، بل يعني انهيار وئام تاريخي بين الناس، صمد في أحلك الظروف وبدا أنه يتداعى في أحلك الظروف كذلك.
كان مبادرون من عائلات شقيقة، يسارعون إلى تطويق الاقتتال، وحصره في أضيق نطاق، وبأقل قدر من الخسائر، كانوا ينجحون وكان تدخلهم ضرورياً، ومن ضمن أسباب الضرورة، أن السلطة المنوط بها حفظ الأمن، ما تزال طرية العود، وقليلة الخبرة والعدد والإمكانيات حتى بحدودها الدنيا، ناهيك عن أنها ليست سلطة مستقلة، بل هي كناسها تعمل تحت اسقف منخفضة، وخصوصاً في مدينة الخليل، التي تم استثناؤها عن كل المدن الفلسطينية بأن ظل للإسرائيليين فيها وجود وتأثير في القلب أي الجزء المسمى بـ H2 مع تواجد استيطاني كثيف يحيط بالمدينة وقراها إحاطة السوار بالمعصم.
يحدث أن ينشأ خلاف على قسمة أرض، إلا أن ما أخافني وأنا ابنها، ما نُشر من بيانات تنذر بما يمكن وصفه بحرب مع السلطة، عبر رموزها الأمنية الرسمية "الشرطة"، حتى بلغ الأمر تهديداً بإهدار دمهم إذا لم يتم الاقتصاص منهم جرّاء مخالفات قاموا بها أثناء أدائهم مهامهم الرسمية.
الصورة المحايدة للأمر، أن في الخليل كغيرها من المدن الكبرى في العالم، وليس في بلادنا وحدها خارجون عن القوانين والتقاليد، ويقومون بأعمال تمس مصالح المواطنين، ولقد تبلور في الخليل، إجماع على حتمية التخلص من شرورهم بإرسالهم إلى القضاء. فهم وإن حملوا أسماء عائلات "خليلية" فذلك لا يعني أنهم يتمتعون بحماية العائلة التي لا تقبل على مكانتها المتوارثة أفعالاً جرمية، ولا تحمي من يرتكبها.
مقابل ذلك وقعت شرطتنا في خطأ ما كان ينبغي الوقوع فيه أثناء الاعتقال، ما أيقظ ردود فعل تطورت لتبلغ حد التهديد بالقتل. فعالجت الخليل الأمر بما عرف عنها من عقلانية ومسؤولية. إلا أن ما يتعين على السلطة مهما كانت مبتدئة وضعيفة وقليلة الإمكانيات أن تعالجه، بدءا بعلاقتها بالناس، وكيفية أداء واجباتها بمهنية واحترام، وذلك ليس في سياق منعزل عن معالجة حال السلطة التي هي بأمس الحاجة لأن تعيد تنظيم ذاتها، على أسس مختلفة كلياً عن ما هو معمول به حالياً، وأن ترفع الفيتو الظالم وغير المبرر عن مشاركة الناس في بناء نظامهم السياسي الحديث، عبر الانتخابات والمؤسسات التي تملك حق المساءلة وتنفذ بعدالة مبدأ الثواب والعقاب وتحمي استقلالية القضاء. كل هذا غير معمول به في بلدنا، فإن أحسن العقلاء فعلهم في تطويق الأزمات، وهذا ما نجحوا فيه قدر الإمكان، إلا أن ذلك لا يعفي السلطة من دورها المركزي، ليس في مجرد إعلان مواقف سياسية بل في إدارة بلد ومجتمع، هو في كل الأحوال أساس الصمود على أرض الوطن، وأساس الوئام الاجتماعي، وأساس الحياة.
فلسطين على أرضها تعد بالملايين. وعبثا الرهان على أن هذا الكم البشري يمكن أن يدار بلا مؤسسات ينتجها الشعب ويحميها ويلتزم بقراراتها، "فزمن الحكم بالمراسيم ولّى في كل مكان".
ولا فرق في هذا بين الخليل والقدس ونابلس وغزة وسائر المحافظات الفلسطينية، فما نحن فيه ليس حكاية مدينة أو عدة مدن، وإنما حكاية بلد ومجتمع ووطن.
عن جريدة القدس