تطالعنا بين الحين والآخر بين ثنايا حديث المثقفين والتربويين والأكاديميين مصطلحات عدة، بعضها إن تم تطبيقه في الواقع فأغلب الظن سنكون في مجتمع مثالي بامتياز، ولعل أهم هذه المصطلحات وأكثرها شيوعاً "المسؤولية المجتمعية"، ودورها في تطوير المجتمعات ورعاية أفرادها وحماية ممتلكاتها، وتبني أفكار الأفراد وإبداعاتهم الفكرية، وهي إن كانت على هذا النحو فإن المدرسة من أهم المؤسسات التي لا بد وأن تكون تحت مظلة المسؤولية المجتمعية، فالمدرسة هي الرافد الرئيس للمجتمع بالكفاءات والأفكار والإبداعات ولها دور رئيس في تجدد المجتمعات وتطورها، وهي المكان الذي ينتفع به جميع فئات المجتمع غنيها وفقيرها، الأمي والمتعلم، البسيط والمتنفذ، فلكل هؤلاء أبناء يجلسون على مقاعدها وينهلون العلم بين أروقتها.
تفاجأنا في الآونة الأخيرة بأخبار الاعتداء على بعض مدارس القدس بالسرقة والتخريب، مما يشكل خنجراً إضافياً في خاصرة هذه المدارس، فهي لم تستيقظ بعد من صدمة أعداد الطلبة المتناقصة باستمرار، إلى حرب المناهج الممنهجة، وذلك في ظل ظروف صعبة منها النقص في الكوادر التربوية وعزوف الشباب عن مهنة التعليم، والميزانيات الضئيلة التي تمتلكها هذه المدارس والتي بالكاد تكفي بعض مصاريفها التشغيلية، إضافة إلى الأبنية التي لم يصمم معظمها لتكون بناءً مدرسياً، وفي مواقع تشكل أحياناً خطراً على حياة الطلبة وسلامتهم، وقضايا أخرى يطول وصفها وسردها. وهنا يجب أن يتمثل مصطلح المسؤولية المجتمعية على أرض الواقع وأن يكون للمجتمع دور في الوقوف إلى جانب هذه المدارس لتبقى رأس حربة قوية في مواجهة سياسات تدميرية محيطة بها. فماذا نعني بالمسؤولية المجتمعية، وما دورها وأهميتها. وهل يتحمل المجتمع مسؤولياته على أكمل وجه تجاه التعليم في القدس؟
تعرف المسؤولية المجتمعية وفق ما ورد في الموسوعة العربية على أنها "نظرية أخلاقية تقترح أن أي كيان، سواء كان منظّمةً أو فردًا، يقع على عاتقه العمل لمصلحة المجتمع ككل. فالمسؤولية المجتمعية هي أمرٌ يتعيّن على كل منظمّةٍ أو فرد الالتزام بها للحفاظ على التوازن ما بين الاقتصاد والنُظم البيئية". وهي تتطلب أن تأخذ المؤسسات والأفراد على عاتقهم مراعاة مختلف جوانب الحياة في المجتمع، والعمل على إبراز دورها فيه بشكل فعال وإيجابي، وأن تتحد مع مختلف المؤسسات سواء في القطاع العام أو الخاص لتطوير المجتمع ورفاهيته، وتساعد الحكومة في تحمل أعبائها، والمساهمة في تحقيق التنمية المستدامة وبناء إستراتيجيات هادفة لخدمة الفرد والمجتمع.
إن العلاقة بين المدرسة والمجتمع علاقة تاريخية منذ نشأة المدارس، فالمدرسة سابقاً كانت في نظام الكتاتيب جزءا من المسجد أو غرفة يتبرع بها أحد رجالات البلدة الأثرياء لتكون نواة لمدرسة مستقبلية. فالمدرسة تعد الواجهة الحية للمجتمع. ولها دور بارز في بناء المجتمعات، فنحن لا نستطيع التغافل عن الأدوار التي تقدمها المدرسة للمجتمع، فهي المسؤولة عن تعليم الأجيال من خلال توفير تعليم عالي الجودة، وتنمية مهاراتهم ومعرفتهم، والإسهام في تأهيل الأفراد لتحمل المسؤولية في المجتمع. كما أن المدرسة تشارك مؤسسة الأسرة في بناء القيم والسلوكيات والأخلاقيات السليمة النابعة من ثقافة المجتمع ومعتقداته الدينية والشعبية، وتقوم بدورها في حماية الطلبة من الانجرار إلى العدوانية والسلوكيات السلبية، التي لا تمت لبيئة مجتمعنا بأي صلة، وهذا إلى جانب دور المدرسة في اكتشاف المواهب والإبداعات لدى جيل الشباب واستثماره بطريقة إيجابية، وبهذا فإن المدرسة هي المصدر والمصنع الرئيس لطاقات المجتمع.
وهي إذ تقوم بهذا الدور فلابد للمجتمع نفسه أن يقدم لها بالمقابل ما يمكنها من القيام بوظائفها المحورية، من خلال دعم التعليم والمساهمة في تحسين المدارس وتقديم الدعم المالي أو الموارد الإضافية أو المشاركة في الأنشطة التعليمية، والمشاركة في اتخاذ القرارات حيث يمكن لأعضاء المجتمع المحلي المشاركة في ذلك من خلال تشكيل مجالس أولياء الأمور ولجان أصدقاء المدرسة، وقد يكون بإتاحة "نظام تبني المدارس" حيث تتبنى مؤسسة أو شركة معينة لمدرسة لعام دراسي محدد ضمن اتفاقيات واضحة ودون التدخل في سياسة المدرسة التربوية. والمساهمة في حماية ممتلكات المدارس باعتبارها ملكاً عاماً كلنا مسؤول عن حمايته، والحماية لا تقف عند حد تتبع العابثين فقط، ولكن الحماية بمفهومها الأوسع المساعدة على البقاء، من خلال تجهيز المدارس بما تتطلبه من تجهيزات، والمساهمة في الصيانة الدورية لها لتستطيع الاستمرار، ورعاية الطلبة وتبني الطلبة المحتاجين، والوقوف للنصرة حتى لو بالكلمة في مواجهة كل حرب تواجه هذه المدارس، فأشكال المسؤولية المجتمعية واسعة ومتعددة، ويبقى الأمل الدائم بأن مجتمعنا بخير.
وإذ تعد المدرسة أهم مرفق من المرافق العامة للدولة، فالمسؤولية المجتمعية عن المرافق العامة تعني التزام المجتمع بالمحافظة عليها، ودعم المرافق والخدمات التي تقدمها الحكومة أو المؤسسات العامة للفائدة العامة، ويشمل ذلك مجموعة من الجوانب، منها: المحافظة والصيانة، المشاركة في التطوير، الاستخدام المسؤول وفقًا للقوانين المعمول بها، والتقيد بالقوانين المتعلقة بالبيئة والسلامة. والتوعية والتثقيف بنشر الوعي حول أهمية المحافظة على المرافق العامة وحمايتها.
وفي القدس التي بدأت حربها لحماية التعليم منذ عشرات السنين على يد رجال وسيدات من المجتمع المحلي والمجتمع التربوي، نشأت على أيديهم النواة الأولى لمدارس القدس وكانوا رأس الحربة في فترة من الفترات رغم ما تعرضوا له من الضغط على كافة الأصعدة، وحتى يومنا هذا ما زالت الحرب قائمة بأساليب ومنهجيات مختلفة ولا زال هناك بالتأكيد مؤسسات تمارس دورها الوطني في رعاية التعليم في مدارس المدينة من حيث تحسين البنية التحتية، أو تزويد المدارس بالأجهزة والمعدات والأثاث، وهناك من يكون دوره تربوي بحت فيقدم البرامج والمشاريع التربوية التشغيلية، ولكن ذلك لا يكفي حالياً فالحرب قوية والطوفان عالٍ.
في القدس نحتاج أن نقف أمام مسؤوليتنا بشجاعة، ونقدم ما نستطيع كمجتمع مدني لدعم مسيرة التعليم فيها، ولدعم صمودها، فهي تواجه مدارس تمتلك ميزة تنافسية عالية من حيث البنيان والتجهيزات والتسهيلات للطلبة ولذويهم، لوجود ميزانيات عالية وخطة ممنهجة لتطوير تلك المدارس واستقطاب الطلبة فيها، وهذا ما لا تستطيع مدارس القدس تأمينه دون وقوف كل مؤسسات القطاع المدني، والشركات الخاصة، ورجال الأعمال، والأفراد كل وفق إمكاناته لدعم التعليم في القدس.
باختصار، ممارسة المسؤولية المجتمعية يعزز من استدامة وفعالية المرافق العامة وخاصة المدارس، ويضمن توفير خدمات تعليمية عالية الجودة للمجتمع بشكل عام. وتشجع على التعاون بين المجتمع والمدارس للعمل معًا على تحقيق أهداف تعليمية واجتماعية مشتركة وتحسين جودة الحياة في المجتمع.