أزمة إسرائيل أنها طعنت في كبريائها وهذا يفسر عملية السحق التي تتم لقطاع غزة.
فقد تمكنت قوة محلية صغيرة من النيل من الدولة الأقوى في الشرق الأوسط والتي قدمت نفسها على أنها الدولة الكاسحة، فهي الأقوى أمنياً وتكنولوجياً وتجسسياً وتعرض فائض قوتها العسكرية لحماية دول إقليمية من دول إقليمية، هذه الصورة تهشمت وهنا أسوأ ما حصل لها.
وخلف تلك الصورة كان لديها ما يكفي من القوة لإنكار واقع شديد الوضوح ولرفض أي محاولات للتسوية أو للتهدئة أو لتقديم تنازلات، فلماذا تفعل ذلك ولديها من فائض القوة ما يخيف كل خصومها ؟ فهم مردوعون ولا أحد بإمكانه المساس بها، وما لا يأتي بالقوة يأتي بمزيد من القوة إذا كان هناك ما يعكر صفوها، تلك الصورة تعرضت للكسر.
لن يدعي نتنياهو بعد ما حدث أن لديه أقوى الأجهزة الأمنية والعسكرية. وحين يقول هذا في المرات القادمة لأي من الزعماء سينظرون باندهاش ويسألونه: هل أنت متأكد ؟.
ففي السابع من أكتوبر هبط تصنيف إسرائيل ومستواها ومن الصعب ترميم ما حدث، وهذا ما تشي به الحملة الانتقامية التي تجري بهذا الشكل.
ولكن إذا كان العالم الذي أصيب بصدمة اللحظة العاطفية قد عانى من عدم الاستقرار في المنطقة، وظل قلقاً من انفجارات يشعلها إهدار جهوده في التسوية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي نتاج تملّص الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة فمن الصعب اتهام الفلسطيني على سوء أدائه من تهمة الرفض لأنه الطرف المستفيد من المفاوضات ومن الحل، فيما يعتبر نتنياهو أن إنجازه الأكبر في العقد ونصف العقد الماضيين من زعامته لإسرائيل هو نجاحه الباهر في إسقاط حل الدولتين عن جدول الأعمال الدولي.
وبصرف النظر عن حالة الجنون التي تتلبس قادة الحرب فقد تشكل الظروف الناشئة فرصة لهذا العالم الذي رغم دعمه لإسرائيل إلا أنه عانى من صلف حكوماتها واستمرار تملّصها ما دفع هذه المنطقة لمزيد من التوتر ومزيد من الدم والاستعصاء، ودفعها لهذه الدوامة من جديد لكن بعيداً عن مأزق اللحظة.
فقد جاءت كل الاتفاقيات الكبرى بعد صراعات كبرى وحروب ومعارك كبرى، وعبر التاريخ كان السلاح دوماً يفتح ويمهد الطريق للعمل السياسي.
وبلغة العقل هل تشكل هذه الحرب وتخفيض الائتمان السياسي والأمني لإسرائيل فرصة لحديث سياسي ؟
يفترض أن ما جرى قد كسر الرأس اليابس المغيّب الذي كان ينكر واقع وجود شعب بحاجة للتفاهم معه، كان الغرور والغطرسة قد أصاباه بالعمى والإنكار، لكن ما حدث يوم السابع من أكتوبر يفترض أنه أعطى للعالم ورقة قوة في مواجهة الرفض الإسرائيلي المزمن للتسوية. فبأي لغة يمكن أن يواجه العالم؟ بلغة القوة؟ تلك تم تنفيسها، على ماذا يمكن أن يعتمد في قدرته على إسكات الشعب الفلسطيني؟ على الأمن؟ وهل سيستمر العالم في ملاحقة النيران وإطفائها التي يشعلها التعنّت الإسرائيلي؟
هنا كان يفترض على الولايات المتحدة ومعها الدول القوية التي اجتمع قادتها في اليوم الأول ألمانيا وفرنسا وبريطانيا أن يلتقطوا اللحظة المهمة التي توفرت والخروج بمبادرة سياسية، فقد وفروا دعماً فائضاً لإسرائيل وهذا يعطيهم من القوة ما يمكنهم من الضغط عليه كقوة حماية استراتيجية هو معلق بها وعلى الجانب الآخر فإن قدرته على الرفض باتت أكثر ضعفا ويفترض أن مصداته للممانعة قد انهارت.
إن الولايات المتحدة التي اندفع بيتها الأبيض خلف الفرية الإسرائيلية بقتل الأطفال ليعطي لنتنياهو رخصة سحق غزة قبل أن يضطر للاعتذار، في مشهد كشف عري الموقف الأميركي وصورة الدولة الأقوى وأجهزتها الاستخبارية التي لم تكن تعرف ذلك وتعتمد على معلوماتها من مكالمات هاتفية مضللة ومخادعة وضعتها في هذا الموقف شديد الحرج كانت تعاني حتى الشهر الماضي فقط من تعنت نتنياهو في تقديم أي شيء للفلسطينيين من أجل الحصول على صفقة مع السعودية، كان يفترض وقبل أن تحرك أساطيلها أن تشترط على نتنياهو أن يلتزم بالرؤية الأميركية بدل أن تسانده على تنفيذ نكبة ثانية للشعب الفلسطيني، وهي من وضعت نفسها مبكراً واحتكرت الوساطة بين الجانبين من أجل تحقيق تسوية وهي تملك من الدلائل ما يكفي لإدانة نتنياهو في تدمير كل التسويات.
ما تقوم به إسرائيل سحق للقطاع وتدمير بنيته التحتية وهدم البيوت وتهجير شمال قطاع غزة نحو جنوبه هو عملية ترانسفير جديدة ترفع مستوى الحقد لدى الفلسطينيين ليفتح على حروب قادمة.
ومن العبث أن تعتقد إسرائيل وخلفها الولايات المتحدة أن مشكلة إسرائيل في غزة، بل إن كل الصراع يتركز منذ عام ونصف العام في الضفة. وحتى لو هجرت إسرائيل كل سكان القطاع أو أبادتهم هل سينتهي الصراع ؟
وماذا عن المعركة المفتوحة في الضفة ؟ هل ستحرك لها الولايات المتحدة حاملة طائرات أيضاً ؟ في كل مرة يقول الواقع كلمته تصم واشنطن آذانها بل تذهب أبعد بدعم الاحتلال لتكون مسؤولة عن استمرار الدم، ثم تسأل ببلاهة: كيف يمكن تحقيق الهدوء ...!