كان هنا شعب اسمه الفلسطيني، وهو لا يزال وسيبقى هنا، فالأرض تعرف أصحابها والهواء يتعرّف على أصحابه، كان بالإمكان أن يحتضن هذا الشعب مهاجرين ومستثمرين يهوداً كانوا أو من أي ديانات أو جنسيات أخرى، ليكونوا جزءاً من أهل هذه الأرض، فالشعب الفلسطيني مضياف، ويتمتّع بالقدرة على التسامح والتكافل واحترام التنوُّع، والاختلاف، وهو ملتزم بعمق بكل القيم الإنسانية التي يعرفها البشر الأسوياء.
جاؤوا إلى هذه الأرض غزاة، لا يحملون معاول البناء مُدجّجين بكل أدوات التدمير والقتل، جاؤوا في إطار مشروع استعماري وحشي، محمّلين بكلّ أنواع وأشكال التزوير والكذب والتضليل، وادعاءات توراتية، بوعود أنكرها عليهم الربّ.
جاؤوا ليحلّوا أزمات لـ "الغرب" تسبُّبوا بها، ليتحوّلوا إلى أداة تخدم من اضطهدوهم وأرسلوهم إلى جحيم الصراع، مع شعبٍ موجود منحه الله كلّ خصائص الشعب المبدع القوي المتحدّي، المؤمن بحقوقه وبأُمّته، شعب يتجاوز عدده عدد كلّ يهود العالم الذين يرفض نصفهم الانتقال إلى دولة خادمة، قابلة للزوال، ما أن ينتهي المشغّل الاستعماري من استخدامها. هي دولة شركة وظيفية محدود عمرها بعمر الامتياز الذي منحته لها دول الشركات الاحتكارية الاستعمارية الكبرى.
ثمة مؤشّرات على قرب انتهاء الزمن المخصص لهذا الدور، فالدول المشغّلة بدأت تظهر القلق على مواطنيها في إسرائيل، وكثير منها تعمل على إخلائهم منذ الأيّام الأولى للحرب.
هذا يعني أنّ المجتمع في إسرائيل هو عبارة عن رعايا لدول كثيرة في العالم جاؤوا للاستثمار، أو للهروب من أزمة رفض الاندماج في مجتمعاتهم، أو كمرتزقة من تجّار الحروب والقتل، وأنّ نجاح الدول التي ينتمي إليها مواطنوها في إسرائيل، سيعني أنّ إسرائيل فارغة من السكّان إلّا ممّن أدمن القتل والإرهاب، والانتقام.
هي جولةٌ قبل الأخيرة، ينهض فيها المستعمر "الغربي" بكلّ إمكانياته السياسية والعسكرية والإعلامية والالكترونية، لحماية أداتهم الاستخدامية من السقوط في محاولة لإطالة عمرها، لأنّ المستعمر يريدها أداة، وذريعة لمعاودة بسط هيمنته على منطقة الشرق الأوسط في إطار صراعه ضد قوى كبرى وإرهاصات عالمية لهدم النظام العالمي الذي يتقادم ويتّجه نحو الانهيار، إذاً من غزة وحولها يجري فتح ميدان آخر من ميادين التنافس الدولي والصراع على النفوذ والثروات، يحدوهم اعتقاد أو أمل بأنّ أهل المنطقة، قد أدمنوا التخاذل، وانحطاط القيم، وغياب الكرامات الوطنية والقومية وأنّهم من السهولة بحيث يخضعون لمن يسبق في الوصول.
منذ اندلاع ما يسمّى "الربيع العربي"، الذي صاغته الولايات المتحدة الأميركية تحت عنوان "الفوضى الخلّاقة" و"الشرق الأوسط الجديد"، لم يتوقّف هؤلاء عن استراتيجياتهم وأهدافهم رغم سقوط تلك المخطّطات، ولكن ليس قبل أن يتركوا دماراً في عديد البلدان العربية.
لقد سقط هذا المخطّط من البوّابة المصرية الكبيرة، التي أسقطت أحلامهم، وشكلّت درعاً قويّاً أمام إمكانية تقدمهم نحو إسقاط المزيد من البلدان، ونحو هدم وتغيير الخرائط الجيوسياسية. مثلما لم تكن مصر، وليبيا، واليمن، والعراق وسورية، خارج هذا المخطّط فإنّ العربية السعودية ودول الخليج والمغرب العربي، كانت هدفاً لولا فشل الحملة ابتداءً من مصر.
الآن يعاودون الكرّة، في ظروف مختلفة حيث الصراع الدولي محتدم والحرب العالمية الثالثة تتّخذ أشكالاً وفصولاً وأدوات مختلفة، هو صراع بقاء بالنسبة لمن تسيّد النظام العالمي لعقود، وبين من يسعون إلى التغيير، ويبحثون عن نظام شراكات دولية بديلاً عن نظام احتكار دولي.
جوهر الخطّة يبدأ من حيث لم يصدّق العرب والعالم أنّ القضية الفلسطينية هي بوّابة الحرب والسلام الإقليمي والدولي، وها هي الأحداث تؤكّد ذلك.
في المخطّط الذي تديره الولايات المتحدة والتحالف "الغربي"، وإسرائيل تشكّل أداته الأساسية، بدعم وشراكة فاعلة من قبل "الغرب"، أن يتمّ تهجير سكّان قطاع غزة البالغ عددهم مليونين ومئتي ألف مواطن إلى سيناء، وتبديد هؤلاء عَبر توزيعهم إلى دول أخرى حتى يفقدوا هويّتهم الوطنية، ومن بعد تهجير سكّان الضفة الغربية والقدس إلى الأردن، حيث دولتهم البديلة التي تحدّث عنها شارون في ثمانينيات القرن الماضي.
بموجب ذلك، يتمّ إزاحة عقبة من أمام فرض واقعٍ استعماري على المنطقة عَبر "التطبيع"، و"تحالفات جديدة"، تشكّل سدّاً أمام تقدّم محتمل للصين وروسيا.
مصر حتى الآن والموقف العربي شكّلت سدّاً أمام هذا المخطّط نأمل أن يستمرّ ويتقوّى، لكنّهم لم ييأسوا بعد من النجاح.
إلى حين ينجحون أو يفشلون في مخطّط تهجير سكّان غزة، وبمباركة أميركية و"غربية" شاملة، تُفرِغ إسرائيل كلّ ما في ترسانتها من أسلحة دمار على رؤوس الفلسطينيين لإسقاط أكبر عددٍ من الشهداء والجرحى، وقتل الأحياء، بسبب انقطاع سبل الحياة من ماء وكهرباء، وطعام وعلاج، وتترك الناس نهباً للأمراض الناجمة عن التلوُّث والغاز المحظور دولياً وتعفُّن الجثث تحت الأنقاض، التي يعجز "الدفاع المدني" عن إخراجها.
تسقط كلّ الخطوط والقيم أمام دوافع تحقيق الأهداف محمّلة بكلّ أنواع الحقد والكراهية والفاشية والعقاب الجماعي، ولا تزال تحظى بالدعم الأميركي و"الغربي"، الذين يتقاطر زعماؤهم على إسرائيل، لإعلان الدعم والموافقة وليس فقط تأمين غطاء أخلاقي ساقط.
لهذا ومن دون أيّة ضوابط تقصف إسرائيل المستشفيات وسيّارات الإسعاف و"الدفاع المدني"، ومصادر الطاقة والمياه، والمخابز، والأسواق، والبيوت على رؤوس أصحابهم الذين يهربون من تحت الدلف إلى تحت المزراب.
لا مكان آمناً في القطاع، فالقصف والموت يلاحق الناس في بيوتهم وفي الأماكن التي يعتقدون أنّها أكثر أمناً، ليكتشفوا أنّه لا مكان آمناً.
إسرائيل منذ البداية تكذب وتكذب وتكذب حتى يصدّق الناس بمن فيهم الإسرائيليون أنها تكذب في كلّ شيء. تدّعي إسرائيل أنّ القصف الذي استهدف مجزرة المستشفى الأهلي العربي وسط مدينة غزة، وأدّى إلى سقوط أكثر من خمسمائة شهيد، أنّه بسبب خطأ بصاروخ أطلقته حركة الجهاد الإسلامي من مقبرة لا تبتعد سوى أمتارٍ قليلة عن المستشفى.
ينسى الناطق العسكري لجيش الاحتلال الذي استحضر وسائل الكذب الملفّقة والتي يسهل استحضارها عَبر وسائل التكنولوجيا، ينسى هذا أنّ إسرائيل أطلقت أوامر مسجّلة لخمسة مستشفيات بالإخلاء تمهيداً لقصفها، وإخراجها من الخدمة كما سبق أن فعلت إزاء مستشفيات "بيت حانون" و"الكرامة" و"محمد الدرّة".
في البداية قال الناطق الإسرائيلي لتبرير الجريمة إنّ "حماس" تستخدم المدنيين والمستشفيات دروعاً بشرية، وتبنّى "البنتاغون" الأميركي الرواية بحذافيرها.
بعد ذلك، وإلى حين حصل جيش الاحتلال على الوقت اللازم لجمع أدوات الكذب والتزوير خرج الناطق باسمه، ليقول إنّ المجزرة من فعل "الجهاد الإسلامي".
جيش الاحتلال يحقق مع نفسه، ولا يمكن له الوصول إلى نتائج مخالفة لروايته كما يفعل دائماً حين يرتكب أو ترتكب عصابات المستوطنين مجازر من كلّ الأشكال، ولا تزال جريمة اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة في الأذهان.
من حيث المبدأ، لا تملك أيّ من فصائل المقاومة هذا النوع من الصواريخ ولو كان لديها لكانت أعداد القتلى والجرحى في إسرائيل بالآلاف، بسبب استمرار إطلاق الصواريخ من غزّة.
لديّ أعتقاد بأنّ حتى الدول العربية لا تملك هذا النوع من الصواريخ التي تزوّدت بها إسرائيل من الترسانة الأميركية.
خبير أميركي يعرض مقارنة بين صواريخ المقاومة الفلسطينية، وصواريخ (JDAM) الذكية الأميركية، ما يثبت أنّ مجزرة المعمداني هي من هذا النوع الذي استخدمته إسرائيل.
الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي شرح، أمس، في خطابٍ، هذا المخطّط وأهدافه بما يتطابق مع ما أوردناه في هذا المقال، وأكّد أنّ مصر سترفض بكلّ قوّة مخطّط التهجير، ما يعني أنّ مخطّط التطهير العرقي والإبادة الجماعية هي الخيار المتاح أمام إسرائيل.
هنا يبقى أمام إسرائيل احتمال الحرب البرية بموازاة استمرار ارتكاب الجرائم بحقّ كلّ أسباب وعوامل الحياة.
إسرائيل ومن خلفها، بل ومن هم أمامها، تخشى كثيراً من القيام بحربٍ برية لأسباب كثيرة ولكن من بينها مباشرة، الخوف من حجم الخسائر البشرية الضخمة التي تنتظر قوّاتها، بالإضافة إلى الخشية من أن يؤدّي ذلك إلى توسيع ميدان النار ليشمل الجوار والإقليم.
حسناً فعل الرئيس محمود عبّاس حين انسحب من القمّة الرباعية المتوقّعة في الأردن، ما أدّى إلى إفشالها وإعلان العاهل الأردني، أنّها لن تتم.
المشهد العام يشير إلى أنّ الرهان الأساسي لإفشال هذا المخطّط يقع على أكتاف الشعب الفلسطيني وعلى الأمّة العربية والإسلامية، وهي تملك أوراقاً قويّة قادرة على توجيه صفعات قويّة الى وُجوه كلّ من يقف خلف وأمام إسرائيل، تحترم وتنظر بتقدير لحراك الرأي العام العالمي وإلى ما يصدر عن مؤسّسات الأمم المتحدة كلّها من تصريحات وبيانات وتحذيرات، ولكن لا أملَ بدورٍ فاعل لوقف الحرب، طالما أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها يرفضون ذلك.