تتراجع قليلاً قليلاً في إسرائيل مفاجأة صدمة السابع من أكتوبر والتي سيكتب التاريخ أنها نقطة تحول في مسار السياسة في المنطقة، رويداً رويداً ينجلي غبار معاركها ويسمح للعقل في تل أبيب أن يتقدم قليلاً خاصة حين يأخذ الصراع مساراً كان أبعد من كل التوقعات عندما يبرز خصم على هذه الدرجة من الفعل ما يعني أن الحسابات تختلف وما كان سهلاً لم يعد كذلك.
تبحث إسرائيل عن قدرة الردع التي تلقت أكبر ضربة ربما في تاريخها، وتدرك أيضاً أن الضربات الجوية مهما بلغت شدتها وما حصدته من أرواح لن تتمكن من ترميم ما تمزق من صورة تعتبرها أساس وجودها.
فإسرائيل ليست ككل الدول، ففي عرفها فالهزيمة تعني النهاية بعكس دول انهزمت ثم تعلمت ونهضت، ذلك الاستنتاج ليس سوى لسبب خلل في التفكير لدولة يطاردها هاجس الاستقرار والثقة بالنفس.
الضربة كانت كبيرة فقدت فيها صوابها، والذراع الجوية التي صممت لتكون الأقوى وتطال كل مدن العرب سبقت منفعلة قراءة اللحظة وعقلها السياسي، وكلما أوغلت في غزة توغلت في إسرائيل تساؤلات عميقة باحثة عن إجابات المستقبل المبهم بعد هذا القدر من خلط الأوراق كلها.
وبكل الظروف كانت الدبابات تنتظر الإشارة للدخول في حربها البرية لتقدم جواباً على سؤال الردع والذي يتفرع لأسئلة كثيرة.
للمرة الرابعة يتخذ القرار بالتحرك براً وللمرة الرابعة تقدم تبريرات اللا قرار.
وبين هذا وذاك يدور جدل صاخب لا يخفف وطأته سوى أن الشعب برمته موحد في لحظة أصابت الجميع بدهشة ما حصل ومع سيكولوجية الخوف التي أحدث التاريخ بها ما يكفي من الخلل يأخذ النقاش حول الخوف مشروعية لا تعادلها أخرى.
بين ضرورة الدخول البري لاستعادة الردع، وبين محاذير خسارة قد تصل لمستوى فصل آخر للسابع من أكتوبر يزداد النقاش حيرة.
فإذا تحملت الأول في ذروة القوة فإن الثاني سيكون وقعه أشد في لحظة ضعف وهنا الكارثة، فالحسابات باتت معقدة وتقديرات الخسارة أكثر تعقيداً حيث يقدم وزير الدفاع رؤية متشائمة ويتقدم الجنرالات بتقدير أكثر تشاؤماً وتتحدث صحف أميركية عن هانوي جديدة، كل ذلك يزيد الحسابات المعقدة إرباكاً.
والأسوأ لدولة قامت بهندسة سياساتها منذ عقود وأدارت كل فعلها بإتقان نادر كان مركزها التخلص من قطاع غزة بعد أن اكتشفت خطأ السيطرة عليه، وللحظة كادت تنجح تماماً وإذ بالقطاع الذي حلمت بأن يغرق وعاشت على وقع التحرر منه يباغتها في غرفة نومها عارية ليعود السؤال الأكثر تعقيداً، ماذا لو؟
ماذا لو نجحنا بدخول بري وسيطرنا على قطاع غزة. وتقدر الأوساط الأمنية المتفائلة أن المهمة تحتاج إلى عامين.
وخلال هذين العامين من سيدير الماء والكهرباء والخدمات والبلديات؟ هكذا تكون قد تورطت مرة أخرى في حكم القطاع ما يعني انهيار هندسة عقود من السياسة كانت كلفتها عالية من المال والرجال.
ماذا عن اليوم الثاني؟ من سيتسلم حكم القطاع. تلك أسئلة بدأت تعلو كلما ابتعدنا عن السابع من أكتوبر وهي لم يكن من الممكن أن نسمعها في الأيام الأولى لأن نزعة الانتقام كانت تغطي على صوت العقل.
لكن ما أن بدأت جرعة الانتقام تسري في عروقها حتى أخذت الأسئلة تطل صاخبة لتدخل إسرائيل في لعثمة وتنقلها من مأزق أمني إلى مأزق سياسي جديد لا يبدو أن له حلاً في ظل السياسات الإقليمية والدولية.
في هذه الحرب تمت مفاجأة اسرائيل، وهذا يعني غياب كل سيناريوهات المعركة وليس كما أن تبدأها هي. لكن سيناريو الحرب البرية كان بعيداً جداً حتى للحروب التي تطلق فيها طلقتها الأولى بعد تجربة الحرب السابقة مع حزب الله وخسارة 133 جندياً وبعدها تجربة الشجاعية العام 2014 والتي انتهت بكارثة الأسر لتنحي هذه الوسيلة الأكثر كلفة في حربها مع القوى الفلسطينية المسلحة مع غزة وتاركة لسلاح الطيران أن يتكفل بالأمر.
الآن بدت غزة صاحبة المغامرات وقلب الطاولات كأنها تجر إسرائيل لخيار المأزق.
فلم يعد سلاح الجو رغم كل ما ألقاه فوق غزة قادراً على استدعاء صورة النصر بل بدأ بضرباته التي طالت المدنيين والمستشفيات فيقضم صورة الحرب ويقلّص بالتدريج التفاف الرأي العام الدولي الذي تحقق في الأيام الأولى للحرب.
وكلما طال الوقت أكثر تتآكل شرعية الحرب البرية وغيرها أيضاً وتزداد الخيارات الإسرائيلية ضعفاً، يزيد من ضعف السياسة الإسرائيلية فالولايات المتحدة تهدئ لهجتها ووسائل الإعلام تمسح خطاياها.
والرأي العام بدأ يتململ والحالة العربية تصبح أكثر جرأة وهذا ما يمكن لمسه في خطابات قمة القاهرة أمس ورغبة مصر بتسلم الملف والانتقال للبعد السياسي أبعد مما تريد إسرائيل التي تحلم بتهجير غزة يبدو الحديث عن حل سياسي ودولة فلسطينية يحمل قدراً من الاحتجاج العالي على واقع الولايات المتحدة وإسرائيل، وإذا كانتا تشكلان محوراً واحداً فقد تلقى هذا المحور ضربة قبل أسبوعين لا تسمح له بفرض شروط الواقع أو احتكار مساره ....تلك هي السياسة.