بصرف النظر عن نتيجة الحرب الإسرائيلية على غزة، كذلك بصرف النظر عن القناعة العامة بالمقولة المعروفة بأن نتائج الحروب يكتبها المنتصرون، ولأن عصر اليوم هو عصر السوشيال ميديا، حيث بات تداول الوقائع عاماً، ومشاركة الناس باتت واسعة في صنع الوقائع والشهادة عليها، نقول رغم كل هذا، فإنه يمكن القول اليوم، وقبل أن تنتهي الحرب، إن الحرب قد شهدت معارك محددة فيما بين دفتيها، على جبهات عديدة: سياسية، أمنية، إعلامية، طبية، ومن بين تلك المعارك ظهرت مبكراً معركة إطلاق الرهائن الذين احتجزتهم حماس، في اليوم الأول للحرب، أي أولئك الذين عادت بهم إلى قطاع غزة، بعد غارتها على بلدات غلاف غزة الإسرائيلية.
الحقيقة أن احتجاز هؤلاء الرهائن، كان هدفاً على ما يبدو من عملية الإغارة على بلدات غلاف غزة الإسرائيلية أصلاً، ولكن ربما ليس بالتفصيل الذي وقع لاحقاً، ذلك أن الهدف من عملية «طوفان الأقصى»، كما أشرنا في مقال سابق، كان هو هدف حماس الذي حددته منذ وقت، أي منذ أن اقتنعت بأن إسرائيل لا تنوي الدخول في مفاوضات تبادل للأسرى، ذلك أن ما لدى حماس «الإسرائيليان المدنيان، وجثتا الجنديين الذين تحتجزهم منذ العام 2014» لم يكفِ لدفع إسرائيل لإتمام تلك الصفقة، كما سبق لها وفعلت العام 2011، حين عقد الطرفان صفقة تبادل مئات الأسرى الفلسطينيين مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت.
وذلك رغم المبادرات العديدة التي تقدمت بها حماس، على مدار السنوات السابقة، لم تتقدم إسرائيل قيد أنملة نحو إغلاق ذلك الملف، لذا فقد اقتنعت حماس منذ بضع سنوات، بضرورة أن «تزيد الغلة» كما كان قادتها يصفون الهدف الذي يسعون خلفه، وفعلاً قامت حماس بعدة مناورات لاختراق الحدود بهدف الوصول لبلدات الغلاف، أمام أنظار إسرائيل، وكانت حماس تنوي أن تعود قواتها بعشرات الأسرى من كتيبة غزة المرابطة في تلك البلدات، لكن في حقيقة الأمر، أن العدد الذي شارك في عملية «طوفان الأقصى» يقول إن هدف حماس ربما تطور مع تطور الأحداث بعد تشكيل حكومة التطرف الإسرائيلية الحالية، وبعد كل ما فعلته من عنف واستباحة مقدسات منذ بداية العام الحالي، وذلك باتجاه تحويل العملية لتحقيق هدف مزدوج، أي القبض على أسرى إسرائيليين لتبييض سجون إسرائيل من الأسرى الفلسطينيين، ولردع العنف الإسرائيلي في القدس والضفة الغربية.
المفاجأة التالية كانت أن عدداً من المحتجزين الذين عادت بهم القسام إلى غزة، كانوا من المدنيين أولاً، وثانياً كان بعضهم مزدوج الجنسية، أي يحملون الجنسية الإسرائيلية، وجنسية أخرى، وهكذا ظهرت قصة الرهائن المدنيين أولاً والأجانب ثانياً، لتؤثر على مسار الحرب خاصة لجهة تبرير المشاركة الأميركية والغربية في حرب عدوانية إسرائيلية لا علاقة لها بالدفاع عن النفس لا من قريب ولا من بعيد.
منذ البداية طالب الإسرائيليون ومعهم الأميركيون، ضمن دعاية الحرب الإعلامية، بالإفراج عمن سموهم المحتجزين والرهائن، حتى لا تستخدمهم حماس دروعاً بشرية، فيما حماس وجدتها فرصة للمساومة على وقف الحرب العدوانية على غزة، ما دامت أميركا والغرب لم يفعلا كما في الحروب السابقة، أي ما دام أنهم قد أعطوا إسرائيل الضوء الأخضر ومنحوها كل وسائل الحماية لارتكاب جرائم الحرب، في ظل تخاذل عربي وإسلامي عن اتخاذ أي إجراءات رادعة، من شأنها أن توقف على الأقل قتل المدنيين الفلسطينيين وارتكاب جرائم الحرب كل يوم، بل كل ساعة.
وقد اتضح موقف إسرائيل منذ بداية معركة الرهائن بأنها تريد الإفراج عنهم كلهم أولاً، وكلهم هذه تشمل كل من تم أسرهم يوم السابع من تشرين الأول الجاري، وذلك لنزع المبرر الذي يدفع أميركا للمطالبة بتأجيل الحرب البرية، خوفاً على حياة المحتجزين خاصة من مواطنيها والأجانب، وبسبب الضغط الأميركي للإفراج عن مواطنيها، أرادت إسرائيل أن يطلق سراح مواطنيها هي أيضاً في معية المواطنين الأميركيين، لكن حماس وجدت مصلحتها وغايتها في الإطلاق التدريجي فقط عن المدنيين من المواطنين الأجانب، أما الحديث عن المحتجزين من الإسرائيليين، فهذا الوصف ينطبق فقط على المدنيين منهم، أما العسكريون فهم أسرى حرب، وهذان ملفان منفصلان عن ملف «الضيوف الأجانب» كما وصفهم أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام، وكل هذا يحدث بعد التدقيق في ملفاتهم، وذلك لتبرير أخذ حماس الوقت للخوض في هذا الملف وذلك لإجهاض اندفاع إسرائيل باتجاه الحرب البرية.
ثم بدأت المعركة ميدانياً حين أطلقت حماس مبكراً أماً إسرائيلية وطفليها، دون مقابل، وحتى خارج إطار الوساطة القطرية أو المصرية، وذلك لاحتواء الدعاية الغربية التي انطلقت أول الحرب بناء على أكاذيب إسرائيلية، تقول بارتكاب حماس مجازر بحق المدنيين الإسرائيليين في أول أيام الحرب، ثم تلتها الدفعة الثانية، وتضمنت إطلاق سراح أم أميركية وابنتها، وذلك مقابل دخول أول دفعة شاحنات محملة بالمواد الطبية لغزة، ومقابل توقف القصف مدة خمس ساعات، ما بين الثالثة والثامنة مساء، وهذا لفتح الطريق أمام تبريد حمّى الحرب، وفعلاً بدأت حركة الشاحنات وإن بتتابع بطيء نسبياً بالدخول لغزة، ومع إشادة البيت الأبيض بإطلاق الرهينتين الأميركيتين، أبقى ذلك على أمل أميركا بإطلاق سراح مواطنيها قبل اندلاع الحرب البرية التي يمكن أن تودي بحياتهم، وجو بايدن بحاجة ماسة لهؤلاء المواطنين من أجل حملته الانتخابية العام المقبل، ومن يدري ربما يقوم بتوزيعهم على الولايات الأميركية لينخرطوا في دعايته الانتخابية.
وفعلاً بعد مرور أسبوعين من القصف المتواصل، وترافق ذلك مع تظاهرات شملت عواصم ومدن العالم، غير مسبوقة، تندد بجرائم الحرب الإسرائيلية والتواطؤ الأميركي والغربي معها، بدا واضحاً أن إسرائيل بضغوط أميركية أو بغيرها، تتردد في الانتقال بالحرب لمرحلتها الثانية وهي الحرب البرية، وتبع هذا خلاف ظهر للعلن بين نتنياهو وغالانت والجيش، وترافق ذلك مع تبريرات بايدن مدافعاً عن نفسه وعن موقف نتنياهو المتطابق معه، بأنه متخوف من عدم وجود هدف عسكري للحرب الإسرائيلية، والأكثر من ذلك عدم وجود هدف سياسي، يتعلق بمصير قطاع غزة، في اليوم التالي لانتهاء الحرب، هذا في حال حقق الجيش الإسرائيلي هدفه العسكري، الذي التزم به، وهو سحق حماس وتفكيك نظامها في الحكم، وطبعاً القضاء التام على «القسام» وفصائل المقاومة.
بعد مرور عشرين يوماً، يمكن القول إن الخلاف حول الحرب البرية انتقل داخل إسرائيل بين المستويين السياسي والعسكري، حيث إن نتنياهو يقول إنه لا يمكن حسم الحرب بالقوات البرية، بل بسلاح الجو، وهو بذلك يشير إلى التفوق المطلق لسلاح الجو، الذي ليس له مقابل لدى حماس، فيما الحرب البرية ستكون بين جيشين، حيث يمتلك الجيش الإسرائيلي التفوق في العتاد والعدد، لكن تتفوق حماس في إرادة المقاتلين وفي التحصين الدفاعي، وفيما تخفيه من قدرات قتالية إن كان على صعيد الأنفاق، أو السلاح المخفي داخلها، ولهذا حتى الجيش المندفع تجاه الحرب البرية يقول إنها ستطول، وبعد أن قال غالانت إنها قد تستمر عشر سنوات، تراجع وقال شهراً أو شهرين أو ثلاثة، وذلك واضح بهدف إقناع الآخرين بإطلاق الحرب البرية.
أخيراً يجمع المتابعون الإسرائيليون على أنه لا مفر من الحرب البرية، فحتى نتنياهو يقول إنه يقوم بإعادة فحص قبل اتخاذ القرار المصيري وهو دخول غزة، وحتى هذا لا يعني احتلالاً كاملاً، فالمآل النهائي للحروب لا يكون ترجمة دقيقة وتفصيلية للخطط التي أعدت منذ بدايتها، بل يتحدد إلى درجة كبيرة بتلك المعارك الموضعية التي تحتويها دائرة الحرب، وكثير من الحروب توقف بعد خسارة معركة، كما حدث في الحرب العالمية الثانية، حيث يقال إن حرب العلمين البرية العام 1942 غيرت وجهة الحرب أو صمود لينينغراد في وجه الجيش النازي، الذي منعه من دخول المدينة الروسية، رغم ما ألحقه بها من خسائر بشرية، وكانت سبباً في هزيمة ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية، كذلك معركة باخموت التي ستقرر مصير الحرب الروسية الأوكرانية الحالية.
"جريدة الأيام"