أكتب هذه السطور ولا شيء في الأفق يُعطي بصيص أمل في انفراج ممكن يوقف شلال الدم المتدفق. وإسرائيل ماضية في حربها ضد قطاع غزة والضفة الغربية وشرق القدس، وبوصلتها في غزة هو ما قاله الرئيس الإسرائيلي اسحق هيرتسوغ بأنه لا يوجد مدنيين في غزة، وأن ما يجري في غزة هو حرب ضد حماس. أي حتى لو أدى ذلك إلى سقوط الآلاف من المدنيين، في مجازر كانت آخرها مجزرة الفاخورة أمس والتي أسفرت عن قتل 150 مواطنا ً ممن لجأوا إلى مدرسة الفاخورة بحثا ً عن ملجأ آمن.
ولن تكون مجزرة الأمس هي الأخيرة طالما أن إسرائيل تُحظى بغطاء أمريكي يحجب عنها ويحصنها ضد أي اجراء دولي يمكن أن يُتخذ ضدها، سواء في مجلس الأمن أو محكمة الجرائم الدولية أو في المحافل الدولية ذات الصلة، مما يشجعها على المضي قدما ً في حربها دون رادع.
حرب الإشاعات والإعلام المضلل
مضى شهر ونصف على بدء الحرب على غزة والناس فريسة للأوهام والاشاعات. وبالرغم من ظهور الرئيس عباس في عدد من المؤتمرات والمناسبات وتحدثه أمامها إلا أنه لم يخرج في حديث مباشر للأمة يخاطب شعبه مباشرة ويجيب على كل التساؤلات التي تشغل بال المواطن العادي، لكي يفهم المواطنون حقيقة ما يجري ورؤية الأمور في سياقها الصحيح.
نحن هنا أبناء الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة نتلقف الأخبار من وسائل التواصل الاجتماعي وهي آفة العصر، بما تحويه من كذب وتضليل وجهل وتجهيل، ومن وسائل الإعلام التي لكل منها أجندتها ويفتقر معظمها، إن لم يكن جميعها، للمصداقية أو للدقة والموضوعية والمهنية في أحسن الأحوال.
صحيح أن القيادة لم يهدأ لها بال من أول لحظة وهي نشيطة جدا ً في تحركاتها الدولية والدبلوماسية على كل الأصعدة للمطالبة بوقف المجازر التي ترتكب ضد أبناء شعبنا في القطاع والضفة، ولكننا نحن عامة الشعب من حقنا أن يكون لنا نصيب من وقت القيادة واهتماماتها وأن تخاطبنا مباشرة وتقول لنا على الأقل إلى أين نحن ذاهبون ولن نؤاخذها إن كانت هي الأخرى لا تعرف إلى أين.
الجو مزدحم بالأخبار بعضها حقيقي وبعضها عن اقتراحات وتكهنات أو اشاعات وكل تلك الأمور تتعلق بمصيرنا ومصير وطننا ومصير قضيتنا وتستحق أن نسمع بشأنها خطابا ً مباشرا ً من قيادتنا.
في إسرائيل يخرج نتنياهو في مؤتمر صحفي شبه يومي على كل شاشات التلفزة الإسرائيلية وإلى يمينه وزير الحرب يؤاف جالانت وإلى يساره بيني جانتس يدلون ببيانات لشعبهم ويقفون للرد على أسئلة الصحفيين. ونحن ومنذ شهر ونصف لم تجر مخاطبتنا مباشرة بشكل خطاب إلى الأمة من سيادة الرئيس!
الذي دفعني إلى كتابة هذه السطور هو تزاحم الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام والتي تتحدث جميعها عن سيناريوهات ما بعد حماس، أو ما بعد الحرب على فرض أن حماس ستظل تتصدر المشهد، وعما بعد عباس، وعن دور السلطة في المرحلة القادمة وعن السلطة "المخصبة" fertilized حسب قول وزير الخارجية الأمريكية بلينكن، وعن تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء وعن عملية مماثلة في المستقبل القريب لتهجير سكان الضفة. كل هذا الحديث والقيادة تلتزم الصمت ولا تقول للناس شيئا ً يبدد من مخاوفهم أو يزرع الأمل وروح الصمود بين ضلوعهم.
المستشفى الميداني الأردني بنابلس
وبمناسبة الحديث عن سيناريو تهجير سكان الضفة فهناك أمور تثير القلق الحقيقي بين الناس أولها عنف المستوطنين المتزايد والتصريحات التي يدلي بها قادة اليمين الفاشي المتطرف في إسرائيل والتي تدعو إلى تهجير الفلسطينيين من الضفة للأردن وإلى البلاد العربية الأخرى. وبالإضافة لذلك فقد حدث هذا الأسبوع أمران ساهما في زيادة القلق بين الناس. الأول هو المستشفى الميداني الأردني في منطقة نابلس والثاني قرار وزارة التربية والتعليم بأن يكون التعليم في مدارس الضفة هذا الأسبوع عن بعد أي بواسطة التعليم الإلكتروني.
فمفهوم المستشفى الميداني مرتبط في الأذهان بالحروب والكوارث الطبيعية التي تسفر عن أعداد ضخمة من المصابين تعجز المستشفيات المحلية عن استيعابها مما يضطر الدول للاستغاثة بالدول الشقيقة والصديقة لإرسال البعثات الطبية وإقامة المستشفيات الميدانية للمساهمة في اسعاف المنكوبين. وبالرغم من أن هذه ليست المرة الأولى التي يرسل فيها الأردن الشقيق وحدات طبية للضفة حيث سبق أن أرسل وحدة جراحية إلى رام الله عام 2000 وأخرى عام 2001 إلى نابلس تم نقلها بعد شهور إلى جنين، إلا أن الحديث عن "مستشفى ميداني" بالضفة توأم للمستشفى الميداني الأردني في خانيونس يجعل الناس تربط بين ما يجري في خانيونس وما يمكن أن يجري على غراره بالضفة فيزداد القلق والتوتر زيادة عما هو عليه بطبيعة الحال.
أما بالنسبة لقرار الوزارة بجعل التعليم عن بعد وبالرغم من إمكانية ربطة بعدم دفع رواتب المعلمين وعجزهم عن تحمل نفقات المواصلات إلى مدارسهم، وكذلك ما حدث الأسبوع الماضي من احتجاز طلاب بعض المدارس في مدارسهم لوقوع عمليات قرب مدارسهم ومنعهم من الخروج كما حدث في بيت لحم، إلا أن الأجواء تدفع المواطن للذهاب بتفكيره إلى أبعد من ذلك.
مستقبل القطاع: ما بعد حماس أم ما بعد الحرب
وعلى صعيد آخر فإن ما نسمعه من الحديث المتواصل عن الترتيبات المتعلقة بمستقبل غزة ومستقبل الضفة ومستقبل الشعب الفلسطيني ومستقبل السلطة وقادتها نشعر بأننا في سوق لبيع المواشي أو للنخاسة نتعرض لأبشع قدر من الإهانة والاستهانة بنا وبوجودنا لأن أصحاب السيناريوهات آنفة الذكر لا يعتقدون بأننا موجودين أو بأن وجودنا مرتبط بهذه الأرض وكأننا أحجار شطرنج أو زهر طاولة ويخوضون ويصدرون الفتاوى والمشاريع والاجتهادات بشأن مستقبلنا وكأن لا شأن لنا بذلك.
الحديث عن بدائل عباس يستبعد أي بدائل ديمقراطية ويتجاهل أصلا ً وجودنا وحقنا في اختيار من يمثلنا بطريقة ديمقراطية من خلال عملية انتخابية شفافة. والذي فتح الباب لمثل ذلك الحديث هو وقف العملية الديمقراطية الفلسطينية وتعطيل المجلس التشريعي وإلغاء الآلية التي تضمنها القانون الأساس لإشغال منصب الرئيس في حال غيابه القسري (المادة 37).
فنحن وبكل أسف أوصلنا أنفسنا إلى هذا الوضع من خلال محاولة التنكر لنتائج العملية الانتخابية التي جرت في كانون الثاني عام 2006 ومن خلال ما تلا ذلك من انقلاب حمساوي في غزة ضد الشرعية الفلسطينية في حزيران 2007 وسلخ القطاع عن الضفة والسير فيه على طريق وهم إقامة امارة في غزة، ومن ثم فيما بعد تعطيل العملية الانتخابية والتهرب المستمر من استحقاق الانتخابات. وهو تهرب شاركت في كل من فتح في رام الله وحماس في غزة على حد سواء وعلى عاتق الطرفين تقع اليوم مسؤولية هذا الاستهتار الإقليمي والدولي بشعبنا والذي وصل حد التعامل معنا وكأننا قطيع من الماشية يُساق إلى المسلخ على قدميه.
السيد الرئيس محمود عباس،
أنت مُطالب اليوم وليس غدا ً، بأن تخاطب شعبك مباشرة وفي حديث إلى الأمة تطرح ما يجول في خاطرك وما تعمل وما ستعمل، وأن تقول للعالم بأن كل مخططات الترحيل والتهجير وتزوير إرادة الشعب مرفوضة جملة وتفصيلا ً وأننا باقون هنا كما في غزة هاشم كما نحن في الضفة ملتصقون بتراب هذه الأرض وجذورنا ستظل ممتدة في أعماقها، وأنك حالما تتوقف آلة الحرب الإسرائيلية ستقوم بعملية ديمقراطية أساسها صناديق الاقتراع تعطي شعبنا حقه في اختيار من يمثله وفي اختيار برنامجه الوطني للمرحلة المقبلة.
ويا حبذا يا سيادة الرئيس لو تضمن خطابك مبادرة سياسية فلسطينية ذات رؤية مستقبلية تطرح تصورا ً فلسطينيا ً لكيفية الخروج من الأزمة الحالية يقوم على أساس وحدة الضفة والقطاع والقدس ومصالحة وطنية شاملة تضم كل ألوان الطيف الفلسطيني السياسي والمجتمع المدني، بدلا ً من أن نظل في موقع رد الفعل على ما يُطرح من مبادرات.
نحن بانتظارك!