لم أكن أرغب في الكتابة حول هذا الموضوع لولا التصريحات التي صدرت مؤخراً عن رئيس الوزراء د. محمد اشتية بشان خطة الإصلاح التي تنوي الحكومة القيام بها. فقد تولى الأخ د. محمد اشتية رئاسة الوزراء في العاشر من آذار 2019 أي قرابة الخمس سنوات، والمفروض أن تكون حكومته قد فرغت من تنفيذ برنامجها وأنها الآن في نهاية عهدها لإفساح المجال أمام حكومة جديدة ببرنامج جديد، على أساس الافتراض ولو نظرياً بأن كل الحكومات في العالم لا تعمر في الحد الأقصى أكثر من الفترة البرلمانية المحددة بأربع أو خمس سنوات، وأن الحكومة الفلسطينية بالرغم من أنها تعمل في غياب برلمان إلا أن هذا المبدأ ينطبق عليها.
ومع ذلك فإن علينا ألا نستغرب اعلان رئيس الوزراء عن خطته الإصلاحية لأن هذا الإعلان يأتي في أجواء كثر فيها اللغط عن ضرورة "تجديد" السلطة الفلسطينية، بمعنى اصلاح السلطة الفلسطينية التي تعرضت وتتعرض لحملة اغتيال معنوي وبناء شخصية نمطية لها كسلطة فاسدة إداريا ً وماليا. ورغم المبالغة في الحديث عن فساد السلطة، إلا أن اية حكومة، في أية دولة في العالم، تعمل في غياب مراقبة ومساءلة برلمانية لا بد وأن ينزلق بعض أو معظم وزرائها وكبار المسؤولين فيها نحو اغراءات القوة والسلطة الممنوحة لهم فيقعون عن قصد أو غير قصد في "شبهة" الفساد الإداري والمالي.
العودة الى فيلم عرفات – عباس 2003
ولا بد هنا من الإقرار بأن الحديث من قبل أمريكا وغير أمريكا عن ضرورة "تجديد"، أي اصلاح، السلطة لا يعني تصويب أو اصلاح أداء الحكومة وإنما القصد من هذا الحديث هو اجراء تغييرات في رأس هرم السلطة وأعني الرئيس ومؤسسة الرئاسة. وقد ورد ذلك بشكل واضح من خلال الحديث الأمريكي عن ضرورة تنازل الرئيس عباس عن بعض صلاحياته لرئيس وزراء قوي يتولى رئاسة الوزراء غير رئيس الوزراء الحالي.
والطريف أن الحديث عن تنازل رئيس السلطة عن بعض صلاحياته ليس بالأمر الجديد فقد سبق في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات أن مارست أمريكا ضغطا عليه واتهمته بالاستحواذ على السلطة ورأت فيه عقبة أمام "جهود السلام" وطالبته بأن يتنازل عن حلمه بإقامة نظام رئاسي فلسطيني يجمع الرئيس بيده كلا من منصبي الرئيس ورئاسة الحكومة، وأن يعين رئيسا للوزراء ويتنازل له عن جزء من صلاحياته.
وقد اضطر الرئيس عرفات آنذاك للرضوخ ولو جزئياً للضغوط الأمريكية وطلب من المجلس التشريعي تعديل القانون الأساسي واستحداث منصب رئيس وزراء، فكان له ذلك، وكلف الأخ محمود عباس بتشكيل حكومة جديدة بتاريخ 19/3/2003 حازت على ثقة المجلس التشريعي قي 29/4/2003. ولكن الرئيس عرفات لم يتعامل بموضوعية مع رئيس الحكومة محمود عباس ورفض اعطاءه أية صلاحية تتعلق بالسيطرة على الأجهزة الأمنية وظل ينتقده ويهاجمه في جلساته الخاصة لدرجة أن كان يقول عنه بأنه قرضاي فلسطين أسوة بالرئيس قرضاي الذي جاءت به أمريكا في ذلك الحين لرئاسة أفغانستان عام 2001. وعمل على وضع العراقيل أمام حكومته لإفشاله الى أن اضطر رئيس الوزراء محمود عباس للاستقالة في 6/9/2003 أي بعد 171 يوما.
وها نحن اليوم أمام نفس المشهد ولكن مع تغيير وجوه من هم على المسرح ليجد الرئيس عباس نفسه في نفس المكان الذي كان فيه الرئيس الراحل عرفات في 2003! كل ذلك تحت طائلة مطالبة أمريكا بضخ دماء جديدة في السلطة وتذرعها بأن الرئيس قد كبر في العمر وأن النظام ترهل وأن هناك حاجة لتجديد السلطة وخاصة رأس الهرم!
سلطة 2003 والسلطة اليوم!
وانصافا ً للحقيقة ففي عام 2003 كانت هناك هيكلية دولة ممثلة بوجود مجلس تشريعي فعال وقضاء مستقل وسلطة تنفيذية، وأما في الوقت الحالي فليس هناك مجلس تشريعي منذ انقلاب حماس في 2007، ولا توجد سلطة قضائية مستقلة، ويقف على رأس السلطة التنفيذية شخص واحد هو الرئيس عباس يجمع بيده كل صلاحيات السلطتين التنفيذية والتشريعية ولا تقف السلطة القضائية خارج نطاق سلطته وإمكانية تدخل أذرعه التنفيذية في الشأن القضائي.
صحيح أن هناك حاجة ماسة لتجديد أي اصلاح السلطة، ولكن ليس استجابة لطلب أمريكي أو دولي مهما كانت هويته وإنما استجابة للمصلحة الوطنية الفلسطينية التي تقتضي أن تكون هناك سلطة فلسطينية تستمد شرعيتها من إرادة الشعب الفلسطيني بكل مقوماته وألوان طيفه السياسي. ونقطة الانطلاق نحو تكوين مثل هذه السلطة يجب أن تكون من خلال ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني وجمع شمله وشتاته. ولا شك بأن فاقد الشيء لا يعطيه، وبالتالي فإن التعامل الجدي مع فكرة الإصلاح لا يكون من خلال حكومة تعمل في فراغ دستوري ومنأى مطلقا ً عن أية رقابة أو مساءلة، وإنما من خلال حكومة تحظى بالثقة والشرعية البرلمانية.
نحن نعيش اليوم في مرحلة هي الأخطر في تاريخ الصراع الفلسطيني مع الاحتلال بأشكاله المختلفة، ولا بد من الإقرار بأن مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر 2023 قد أعادت فرض القضية الفلسطينية على أجندة المجتمع الإقليمي والدولي وما الأصوات التي بدأنا نسمعها اليوم من دول مثل بريطانيا وأمريكا عن إمكانية الاعتراف بالدولة الفلسطينية وعن التعامل بجدية أكثر مع فكرة حل الدولتين، ما هي إلا احدى نتائج ما بعد السابع من أكتوبر وثمرة للصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني البطل في قطاع غزة الذي ما زال يواجه أعتى عمليات القتل والدمار العشوائي الوحشي دون أن يرفع راية الاستسلام رغم افتقاره لأبسط مقومات الحياة من ماء ودواء وغذاء ومأوى. وعلينا ألا نفرط بما تم تحقيقه بل البناء عليه لتكون الحرب الحالية هي آخر الحروب وخاتمة المعاناة.
ولا شك بأن انضواء كل القوى والفصائل الفلسطينية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية هو الخطوة الأولى نحو ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني وإعادة الشرعية لمؤسساته، ولكن ذلك لا يمكن أن يتم دون ضوابط وحسابات.
مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر
والتنازلات المجانية
لقد وضع الرئيس عباس رئيس منظمة التحرير الفلسطينية شروطا ً أربعة لانضمام حماس الى منظمة التحرير وهذه الشروط رغم ما فيها من موضوعية إلا أن من الممكن أن تتحول الى تنازلات مجانية من قبل المقاومة الفلسطينية ككل الى إسرائيل دون تحقيق أي انجاز للقضية الوطنية للشعب الفلسطيني ما لم توضع في السياق الصحيح.
ولمزيد من التوضيح أقول بأن مسلسل التنازلات الفلسطيني بدأ منذ انعقاد المجلس الوطني في تشرين ثاني نوفمبر 1988 بالجزائر واعترافه بالشرعية الدولية ممثلة بالقرارات 242 و 338 وقرار التقسيم 181 ونبذ العنف والإرهاب. وكان كل ذلك مقدمة للدخول الى نادي الشرعية الدولية وتوطئة لكي تقبل أمريكا بإجراء اتصالات مباشرة مع م ت ف. ومنذ ذلك الحين ومسلسل التنازلات الفلسطيني مستمر وهو أشبه برقصة التعري دون أن يحقق أية نتيجة.
والمطلوب اليوم من حركة حماس الإقرار بأن برنامجها هو دولة فلسطينية في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 1967، والاقرار بأن المقاومة في هذه المرحلة تقتصر على المقاومة الشعبية السلمية، والالتزام بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني والالتزام بكافة الاتفاقيات الموقعة من قبل م ت ف بما في ذلك الاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل، والالتزام بالشرعية الدولية وبالقانون الدولي كأساس لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
وهذه الشروط الأربعة هي شروط منطقية وضرورية للدخول الى ساجة المجتمع الدولي، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل اعتراف حماس بل وكافة فصائل المقاومة الفلسطينية بهذه الشروط هو عمل أحادي من جانب المقاومة دون أن يكون هناك التزام مماثل من جانب إسرائيل؟ أليس الاعتراف بهذه الشروط الأربعة من جانب المقاومة دون أي التزام من جانب إسرائيل بنفس البنود هو تفريط وتنازل مجاني يضع حماس وغير حماس في خانة من تنازلوا على المقاومة وساروا على درب أوسلو ولم يحققوا إلا التنازل إثر التنازل مما بات يهدد بضياع وانهاء حلم الدولة والتحرر؟
نحن مع الشرعية الدولية ومع القانون الدولي كأساس لحل الصراع ومع السلام ولكن هذه الالتزام يحتاج الى أن يكون التزاما ثنائيا ً متبادلا. وعلى حماس والقيادة الفلسطينية أن يعملا معا من أجل البحث عن صيغة يمكن أن تقدمها للمجتمع الدولي لكي يقتنع بأن حماس أيضا ً مستعدة للسير على درب م ت ف وتحت مظلتها اذا التزمت إسرائيل بنفس المبادئ قولا وفعلا لإنهاء الصراع وتحقيق السلام والأمن والاستقرار للشعب الفلسطيني لأن ذلك هو وحده ما يمكن أن يحقق السلام والأمن والاستقرار للإسرائيليين، وإلا فإن اقتصار تلك الالتزامات على الجانب الفلسطيني وحده ليس إلا تفريط ما بعده تفريط.