أن تعقد صفقة تنتهي فيها هذه الحرب الوحشية فقط بوقف إطلاق نار وإطلاق سراح أسرى وكرافانات وخيام وكأن شيئاً لم يكن، فهذا أقل كثيراً من حجم الدم الذي سال على أرض غزة ومن الدمار الهائل الذي لحق بالقطاع إلى حد أنه لم يعد صالحاً للحياة.
لنفترض أن الصفقة نجحت، ماذا يعني ذلك؟ العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر وعودة الحصار على قطاع غزة في ظل حكم حركة حماس ما يعني منع الإعمار وإدخال مواد البناء، يعني أن الحركة ستحكم خرابة كبرى.
علينا أن نسلم أن هذا لا يمكن أن يكون، حيث لا مدارس ولا جامعات ولا مستشفيات ولا طرق، لكن ليس هذا هو الأهم وأن حكم حماس لغزة أصبح صعباً.
الأهم من ذلك أن هذه الحرب من أكبر الحروب وأشرسها، وعادة فإن الحروب الكبرى تنتج اتفاقيات كبرى، وهذه لا تشبه الحروب السابقة حتى تكون نتيجتها تشبه سابقاتها.
حينها يكون الفلسطيني غير مدرك لواقع اللحظة وأقل فهماً لإدارة السياسة، فالدم الذي سال أكبر كثيراً مما هو مطروح، هذا الدم الغزير والكثيف وتلك الحرب إذا لم تكن نتيجتها إقامة دولة فلسطينية فعلى كل الطبقة السياسية الفلسطينية مغادرة مواقعها.
هنا لحظة تاريخية ولدتها الحرب يجب أن تستولد ارتداداتها الكبرى. فإسرائيل تلقت ضربة هشمت وجهها، ثم فقدت قوتها الأخلاقية وتشهد مكانتها الدولية انهياراً كبيراً، واتضح كما يقول الأميركيون أنها غير قادرة على حماية نفسها، وصدر أفضل توصيف لها عن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن حين وصف إسرائيل قائلاً: «إسرائيل قد تنتصر تكتيكياً لكنها تنهزم استراتيجياً».
انهزمت إسرائيل استراتيجياً وفقدت قوتها السياسية والأخلاقية وقدرة الردع وصورتها كدولة مهيمنة إقليمياً وفاعلة دولياً، خلقت الأحداث مناخات دولية لا تشبه ما قبلها.
فقد هبط سعر إسرائيل في بورصة أوزان السياسة تماماً كما هبط في تصنيف موديز. فالأشياء تتكامل، ولهذا ثمنه السياسي الذي يفرض على الفلسطينيين رفع سقفهم كثيراً أكبر من خيام وكرافانات وأسرى.
هي لحظة تاريخية يجب التقاطها يأخذ فيها الفلسطينيون زمام المبادرة، لا أن ينتظروا أن يقرر غيرهم مصيرهم كما يحدث، فقد صرفوا من الدم ما يكفي للاتكاء عليه في مبادرتهم، مبادرة فلسطينية عربية جامعة تقدم حلاً كبيراً عنوانه الدولة ليس أقل، مستغلين تغييرات دولية بات يجسدها خطاب دولي تضع الولايات المتحدة وأوروبا أمام استحقاق بات ضرورياً للهدوء في المنطقة عنوانه الدولة الفلسطينية لا أقل، فقد انتهى زمن الحلول الترقيعية والالتفافية والانقسامية التي اعتادت عليها الولايات المتحدة بهدوء في الضفة وهدوء مع حصار في غزة بلا آفاق، سياسية تحررية استسهلها وزير الخارجية الأميركي والبيت الأبيض بأقل تكلفة.
المبادرة تتطلب لقاء فلسطينياً عاجلاً للأمناء العامين للفصائل في القاهرة ولتقدم الحل الشامل كورقة واحدة يقوم على وقف الحرب وإطلاق متبادل للأسرى وإقامة دولة فلسطينية بحدود معروفة يفصل بينها وبين إسرائيل قوات أميركية ومصرية وأردنية لمدة عشرين عاماً قابلة للتجديد؟ وهذا يوفر ضمانات أمنية لإسرائيل.
لا ينبغي الانحدار لمستوى السياق الأميركي في تقزيمه للحظة التاريخية المكلفة بالموافقة على ما يطرحه وزير خارجيتها من حلول جزئية متناثرة هدفها توفير أمن لإسرائيل دون حقوق سياسية للفلسطينيين، فالفعل الفلسطيني على الجانبين غزة ورام الله أقل كثيراً من مستوى اللحظة، في غزة والدوحة نقاش يشبه الحروب الصغيرة السابقة من إعادة إعمار ووقف متبادل لإطلاق نار وعودة للسابق؟
وفي رام الله صمت متلعثم وضع نفسه في حالة فارضاً قدراً من القيود على حركته مع قدر من الخوف من الحديث عن سلطة متجددة.
لقاء القاهرة يضع خطة فلسطينية وشروطاً واضحة لا تنتظر زيارة وزير الخارجية الأميركي، وبعد الاتفاق فلسطينياً على تفاصيله يتشكل وفد فلسطيني يترأسه الرئيس وتنتدب حماس من يمثلها في الوفد مساعداً للرئيس للتفاوض مع الأميركيين، بحيث لا يكون من الحركة إعلان تخليها عن حكم غزة لأنه بكل الظروف انتهى كما ورد سابقاً فلن تحكم خرابة وتكون مانعة للإعمار، الوفد يستدعي وزير الخارجية الأميركي للقاهرة لا ينتظر زياراته ويضع أمامه الرؤية الفلسطينية ولتوضع الولايات المتحدة أمام خيارين لا أن تستمر بحشر الفلسطينيين بالخيارات، الخطة الفلسطينية تكون قد تمت بالتشاور مع رباعية عربية من مصر والسعودية وقطر والأردن.
يجب عدم انتظار الفعل الأميركي الذي يتحرك ارتباطاً بمصالحه ومصالح إسرائيل ويهندس كل شيء وفقاً لمقاييس آخرها المصلحة الفلسطينية، ينبغي للحالة الفلسطينية أن تخرج في السياسة من رد الفعل نحو الفعل، فلديها ما تتكئ عليه، وعلى الفلسطينيين أن يثقوا بأنفسهم أكثر وأن ينتقلوا نحو الاستراتيجيات لا أن يبقوا في دائرة نقاش صغائر الأشياء التي استهلكت شعبهم فلديهم ما يتكئون عليه من لحظة ومن دم شعبهم وخاصة أن إسرائيل انهزمت استراتيجياً ... لحظة يجب ألا تفلت .. هنا فعل السياسة..!.