الكوفية:بالرغم من أن الفلسطينيين أصحاب القضية إلا أنهم للأسف لم يعودوا أصحاب القرار فيها، حيث تحولت قضيتهم الوطنية لساحة صراع مصالح وحروب بالوكالة لدول عربية وإقليمية ودولية ولأيديولوجيات عابرة للحدود، والقرار الوطني المستقل والذي يُفترض أن منظمة التحرير الفلسطينية عنوانه هو الأضعف والأقل حضورا في التأثير بمجريات الأحداث، حتى المقاومة لم تعد وطنية خالصة بل تؤثر فيها أجندة دول الإقليم.
لذا دعونا نفكر بواقعية وعقلية فلسطينية خالصة بعيداً عن العواطف والتحيزات الحزبية والتهويمات الأيديولوجية وأوهام ومعتقدات دينية ودنيوية من كثرة ما تعودنا عليها سلمنا بصحتها وبها خلاص شعبنا! وليس بعقلية الآخرين الذين يعملون على مصادرة القرار الوطني تمهيدا لتصفية القضية الفلسطينية، تفكير نستعيد به زمام المبادرة عسى ولعل ان التفكير العقلاني الوطني قد يخرجنا من المأزق وحالة التيه التي نعيشها ويدفعنا لمربعات واقع إن كان الاعتراف به مؤلما إلا أنه المخرج مما نحن عليه.
لن نتحدث هنا عن وضع الاستراتيجيات والخطط بعيدة المدى ولا عن الوحدة الوطنية وانهاء الانقسام، ولا عن تصويب علاقاتنا مع محيطنا العربي والإسلامي ولا عن غياب التنسيق والتخطيط بين مكونات النظام السياسي في الضفة وغزة والشتات في التعامل مع حرب الإبادة الحالية، وهي أمور تحدثنا وكتبنا عنها مطولا. ما سنتحدث عنه وندعو للتفكير به هو مستقبل المقاومة ومستقبل قطاع غزة بعد وقف الجولة الحالية من الحرب وعلاقتهما بالقضبة الوطنية بشكل عام.
اذا كانت السلطة الفلسطينية غير قادرة أو راغبة بحكم غزة الآن وإسرائيل لا تريد ذلك إلا إذا كان وجود السلطة في القطاع مقابل إنهاء تواجدها في الضفة والقدس، وإذ كانت إسرائيل تزعم أنها لا تريد احتلالاً دائماً للقطاع، وإذ كانت مصر تؤكد أنها لن تعود لحكم غزة كما كان الأمر قبل حرب ١٩٦٧،وإذ كانت لا توجد مؤشرات قريبة على قيام دولة فلسطينية في الضفة وغزة عاصمتها القدس حتى وإن اعترفت الأمم المتحدة بهذه الدولة، وإذ كانت لا الأمم المتحدة ولا الدول العربية تريد إدارة القطاع في ظل الاحتلال الاسرائيلي، وإذ كان عودة أو استمرار سلطة حماس له كُلفة كبيرة لرفض غالبية أهالي القطاع له ولأنه يعني استمرار الحرب والحصار ويكرس الانقسام كما أن العدو الذي يرفض وجود سلطة فلسطينية تعترف به لن يقبل بوجود سلطة مقاومة لا تعترف به ... فما العمل؟
عندما تتحول المقاومة في قطاع غزة إلى مقاومة دفاعية عن الفصائل نفسها وعن مرجعياتها الخارجية وعن غزة بمعزل عن استراتيجية تحرر وطني، ويتم اختزال المقاومة بالصواريخ والأنفاق وتؤدي إلى ما أدت إليه من موت وخراب وتهجير سكان القطاع، وعندما تصبح مطالب حماس بعد أكثر من سبعة أشهر من الحرب وقف إطلاق النار وخروج جيش الاحتلال من القطاع كما كان قبل طوفان الأقصى ووقف عملية اجتياح رفح ودخول المساعدات الإنسانية كما كانت قبل الحرب! هذا يطرح سؤلا عما أنجزته حركة حماس وطنيا منذ تأسيسها وخصوصا بعد استيلائها على السلطة في غزة صيف 2007؟ ولماذا كانت عملية طوفان الأقصى؟
عندما يصبح مطلب حركة حماس الرجوع الى أوضاع ما قبل طوفان الأقصى في هذه الحالة فإن غزة منزوعة السلاح بدون أنفاق وصواريخ وبدون جماعات مسلحة مرتبطة بأجندة خارجية تنقذ ما تبقى من بيوت وبنية تحتية وبشر وتنقذ القضية الوطنية مما يُخطط لها من تصفية... أفضل وطنياً من غزة مدمرة مكتظة بالسلاح والمسلحين وبشر تُنتهك انسانيتهم وكرامتهم كل يوم.
هذا لا يعني التخلي عن الحق بالمقاومة بل عقلنتها وانقاذها ممن صادروها وحرفوها عن نهجها الوطني.
ونُذكر هنا أن غزة حملت راية الوطنية وشعلة النضال قبل أن تظهر حركة حماس والجماعات المسلحة كما أن الفصائل في غزة ليست (غزية) بل لها امتداد وفروع ومؤيدون في الضفة وداخل الخط الأخضر وفي الأردن والشتات، فلماذا مطلوب من غزة وحدها أن تضحي حتى آخر طفل ورجل وبيت كما قال أحد قادة حماس؟ ولماذا مطلوب منها لوحدها أن تقاتل دفاعا عن القدس وكرامة الأمتين العربية والإسلامية وحتى عن الأناضول كما قال الرئيس التركي أردوغان الذي لم يفكر حتى بقطع علاقته الدبلوماسية مع إسرائيل؟
مع حرب الإبادة وبعد كل هذا الموت والخراب من حق غزة أن تتنفس وتستريح ولو مؤقتاً، ولتواصل فصائل المقاومة النضال كما تريد في الساحات الأخرى وحسب ظروف كل ساحة. غزة المدمرة عمرانياً وبشرياً لن تكون رافعة أو قاعدة لتحرير فلسطين وكفى مكابرة ومعاندة يا حماس لأن الإصرار على المعاندة وتجاهل الواقع سيثير شكوكاً حول من يدير ويوجه المقاومة في غزة! وستبقى غزة جزءا من الدولة الفلسطينية الموعودة وشعبها جزءا من شعب فلسطيني تعدداه أكثر من 15 مليون ومتجذر في أرضه منذ أكثر من أربعة آلاف سنة. ويستطيع أهالي غزة وفي مرحلة انتقالية أن يحكموا أنفسهم حكما مدنيا بعيدا عن الاحتلال وأعوانه وبعيدا عن الأحزاب وأجندتها الخارجية.