في ليل الأحد ٢٦/ ٥/ ٢٠٢٤ تساقطت القذائف على خيام النازحين في بركسات الوكالة غرب رفح. كانت مواطنة تهيئ الفراش لأطفالها فوجدت رجلها قد طارت. قطع رأس طفل عن جسده فانشغل الأب بالبحث عن الرأس، وسحب الأحياء أجساد من ارتقوا، وبلغ عدد القتلى العشرات، وحين تصفحت بعض صفحات وسائل التواصل الاجتماعي قرأت أسطرا تمنى فيها كاتبوها أن يعجل الله يوم القيامة، وتساءلوا إن كان ما ورد في أغنية جوليا بطرس «وين الملايين» صحيحا. هل العرب حقا إخوة؟ وإن كانوا كذلك، فأين النخوة التي يتغنون بها؟ (ماتت قلوب الناس ماتت بنا الرحمة. يمكن نسينا فيوم إنو العرب إخوة).
تساؤل النشيطين قرأنا، من قبل، مثله في «مديح الظل العالي» لمحمود درويش وفي كتابه «في وصف حالتنا»، وفي قصيدة مريد البرغوثي «طال الشتات» التي منها:
فلما استنجز الموعود وعدا
تصايحت الملوك بأن فداكا
أغاثوه بمرثية وندب
وبئست تلك من غوث وذاكا
ودمع الحاكمين له لغات
وأفصحها يريد لنا الهلاكا»
وأيضا في مطولة سميح القاسم «خذلتني الصحاري» والاستشهادات والاقتباسات والإحالات كثيرة جدا.
مجزرة رفح تمت بعد يوم من خطاب الناطق باسم «حماس» أبو عبيدة، حيث أعلن عن قتل جنود إسرائيليين وجرح وأسر آخرين، وذلك في مخيم جباليا، وأنهى كلامه بعبارة «وللحديث بقية». وكان لخطابه فعل السحر في غزة والضفة الغربية والشتات الفلسطيني. لقد انتشرت عباراته في وسائل التواصل الاجتماعي وعلى الألسن انتشار النار في الهشيم، بل ولقد خرجت مسيرات يحتفل المشاركون فيها بالحدث. ولم يقتصر الأمر على هذا، فروح السخرية التي ألمت بقسم منا في يومي الحرب الأولين: ٧ و٨ أكتوبر ٢٠٢٣، واختفت بعد ذلك - لأن الطائرات الإسرائيلية بدأت تغير وتدمر وتقتل بالمئات وتجرح بالآلاف، وبذلك لم يعد هناك مجال لسخرية - فروح السخرية عادت من جديد، ولكنها لم تتواصل، إذ عجلت محرقة رفح باختفائها، بل إن أحد الساخرين هو من تمنى أن يعجل الله بالقيامة، كأن يسقط صاروخا ما لا يبقي ولا يذر.
القتلى والجرحى في المجزرة هم نازحون، من شمال غزة ووسطها، إلى رفح التي قالت عنها إسرائيل، في بداية الحرب، إنها منطقة آمنة. لقد نزح النازحون بعد أن طلبت منهم إسرائيل أن يغادروا بيوتهم، حرصا على حياتهم، لتقوم بتصفية المقاتلين الفلسطينيين الذين شاركوا في أحداث ٧ أكتوبر.
ما ألم بالنازحين أعادني إلى رواية (يزهار سيميلانسكي) «خربة خزعة» (١٩٤٩) وإلى ما كتبه عنها مترجمها من العبرية القاص توفيق فياض ابن قرية المقيبلة والمقيم حاليا في تونس، بعد إبعاده في العام ١٩٧٤ في عملية تبادل أسرى إثر حرب ٦ أكتوبر١٩٧٣.
«كأننا لا رحنا ولا جينا» كما يقول المثل الذي سمعته من إميل حبيبي الذي نعت العرب بأنهم ذوو ذاكرة عذراء. هل يمكن القول، قياسا على المثل والوصف، إن الحركة الصهيونية تكرر ما قامت به في العام ١٩٤٨ وإن الإسرائيليين لم يتعلموا، أو إنهم لا يريدون أن يتعلموا، على الرغم من أن مياها كثيرة جرت في نهر العالم؟
الفكر الصهيوني هو الفكر الصهيوني وما مارسوه من قبل يصرون على ممارسته، مع أن إمبراطوريات عظمى تلاشت وصغرت (بريطانيا وفرنسا) وعوالم تفككت (الاتحاد السوفيتي) وقوانين عنصرية لم يعد لها وجود (جنوب أفريقيا).
وأنت تتابع ما يجري الآن في قطاع غزة تشعر أن قصة (سيميلانسكي) أصبحت على أرض الواقع خماسية مثل خماسية «مدن الملح»، بل وتشعر أنك تشاهد مسلسلا لا فيلما قصيرا. هذا من حيث القتل والتهجير والتدمير والحرق، مع فارق جوهري أساس يتمثل في تغير صورة الفلسطيني تغيرا كليا، فالصورة التي ظهرت له في الرواية ما عاد لها وجود إطلاقا. لقد اختفت تماما لتحل محلها صورة المقاوم الشجاع الذي يشعر عدوه الغازي أنه ليس في نزهة، كما كان في حرب ١٩٤٨ وحرب ١٩٦٧.
في «خربة خزعة» تظهر الصورة الآتية للفلسطيني، على لسان الجندي غابي، مقابل صورة الإسرائيلي:
«كان شبابنا يقاتلون كمن لا أعرف ماذا، وهؤلاء يهربون. إنهم لا يحاولون حتى القتال»
ويجيبه شموليك عامل اللاسلكي:
«دعنا من هؤلاء الأعراب - إنهم ليسوا رجالا».
والعرب، كما يرد على لسان الجندي السارد:
«قذرون» وذوو نفوس قاحلة. «أصبحوا مقيتين مقيتين إلى حد الغضب، فما الذي نريده منهم. أي دخل لنا. لشبابنا وأيامنا العابرة، بقراهم المقملة المبققة المقفرة الخائفة...»
«يهربون... حتى ولا طلقة واحدة، أنذال...».
ومن المؤكد أن الصورة السابقة لم يبق منها في هذه الحرب أي بقية إلا إذا واصل الكتاب الإسرائيليون نهج الأدباء الصهيونيين الأوائل الذين كذبوا وكذبوا وكذبوا حين رفعوا شعار «أرض بلا شعب» وصدقوه، ثم جوبهوا على مدار ستة وسبعين عاما مجابهة لم تتوقف إلا لتتواصل، ولكنهم خلالها لم يعرفوا شكيمة الفلسطيني وقوته وبطولته إلا في مجابهات عديدة قليلة أهمها حرب حزيران ١٩٨٢ في بيروت وحرب ٧ أكتوبر الدائرة حاليا في غزة.
ومن المؤكد أن هذه الحرب ستعيد للفلسطيني صورته التي ظهرت له عقب هزيمة حزيران ١٩٦٧.