شكلت عملية قصف حزب الله اللبناني لبلدة "حرفيش" بالجليل، والتي أدت لمقتل وإصابات لساكنيها، الى حركة "توتر" سريعة، عندما بدأت وسائل الإعلام العبري بتناقل تصريحات لبعض قادة دولة الكيان حول ما يمكن أن يكون فعلا عسكريا، بعدما اعتبر "حدث حرفيش" تجاوزا لـ "الخط الأحمر" المرسوم "ذهنيا" بين عواصم ثلاث، واشنطن، طهران وتل أبيب.
استبق "حدث حرفيش" البلدة العربية بسكانها من دروز فلسطين ومسيحيها، الكشف عن عملية استدعاء لـ 50 ألف من جنود جيش العدو الفاشي الاحتياط، تم ربطها مباشرة بالتطورات اللاحقة، ليس لحرب الإبادة في قطاع غزة بل لحرب قد تنطلق في كل لحظة، في ضوء تسارع الأحداث الضاغطة على حكومة التحالف الإرهابي.
"حدث حرفيش" سيكون "ذريعة أمنية" لأهداف سياسية يريد نتنياهو الاستفادة منها قدر الممكن، خاصة بعدما ارتفعت "مكاسبه الذاتية" في ظل مظهر المتحدي للولايات المتحدة، مستغلا كل ما وقعت به من "سوء إدارة كارثي" بعد "إعلان بايدن"، بدأت وكأنها تتوسل له الموافقة، بما أجبر الرئيس الأمريكي ذاته للتراجع بعد لحظات من اتهامه بالتعطيل.
استغلال "حدث حرفيش" من قبل نتنياهو، سيبدأ من ترهيب "معسكر غانتس"، الذي هدد بالانسحاب من التحالف الحكومي، فيما سيبدو وكأنه حالة "هروب" في ظل التحضير لحرب قد تبدأ في كل وقت، مصحوبا باتهامه بتنفيذ "أمر أمريكي"، وقد يربك قرار غانتس في البقاء وفي الخروج، وفي الحالتين الربح لنتنياهو.
"حدث حرفيش" سيكون عاملا استغلاليا لترهيب المؤسسة الأمنية، التي ارتبط موقفها في قطاع غزة بالموقف الأمريكي، خاصة وزير جيشها غالانت، الذي أعلن تمردا صريحا على راس التحالف بمطالبته بالموافقة على "إعلان بايدن"، تلاها سابقة فريدة، عندما تم تسريب رسالة قادة جيش الاحتلال تكذيبا لعدم معرفة نتنياهو بيوم 7 أكتوبر.
المفارقة، أن المؤسسة الأمنية لدولة الكيان، أكثر قناعة من نتنياهو بضرورة توجيه ضربة عسكرية واسعة ضد حزب الله وقواعده، ومنها مقره الأمني الكبير (الضاحية الجنوبية)، خلافا لموقف الإدارة الأمريكية، وافتراقا نسبيا عن موقف نتنياهو، الذي يعتبر الأولوية المطلقة له فرض مشروع "التهويد" للقضية الفلسطينية، وكسر قطاع غزة لسنوات قادمة.
وبين مصالح جهاز أمن دولة الكيان ورئيس حكومتها، في التطور اللبناني، برزت أمريكا لتكشف حقيقة موقفها عندما سارعت خارجيتها باعتبار أن أي تصعيد في الجبهة اللبنانية سيلحق ضررا كبيرا بأمن دولة إسرائيل، تصريح شكلا ومضمونا يستحق التدقيق جيدا به، فسرعة الإعلان لم تنتظر للتدقيق، لم تمنح دولة الكيان "حق الرد"، لم تدن أبدا مقتل سكان البلدة أو من أطلق الصواريخ، كما يحدث لو أطلقت قذيفة من قطاع غزة لا تجرح أحدا في جنوب الكيان.
تصريح الخارجية الأمريكية، كشف بشكل جوهري، طبيعة المصالح المشتركة بين إدارة بايدن والدولة الفارسية وأدواتها في المنطقة، من الحوثيين إلى لبنان مرورا بالعراق، فيما لم تعد تقف كثيرا أمام تحالف الفرس في فلسطين، بعدما فقد كثيرا من وجوده المركزي في قطاع غزة.
أمريكا، لا تريد حربا في لبنان، ليس دفاعا عن "أمن دولة الكيان" فلو كانت تلك هي الحقيقة، فأمن الكيان جوهريا مرتبط بالشعب الفلسطيني، اللصيق والمتداخل، وهو ما لم يمكن تغييره، ولكن إدارتها المتعاقبة تجاهلت حل القضية الفلسطينية، بل عملت بكل السبل على تدميرها، ودعمت الفاشية اليهودية والإرهاب اليهودي في الضفة الغربية ولاحقا حرب الإبادة في قطاع غزة.
أمريكا، تعلم يقينا إن حرب تقوم بها دولة الكيان على لبنان ستكسر عامود الأداة الفارسية الكبرى في خطف لبنان، خاصة بعد الخلاص من رفيق الحريري وما يمثله البعد الطائفي السني، وغياب رئيس لدولة لم يعد معروفا لها ملامح سياسية، وتلك مسألة ستلحق ضررا كبيرا بالدور الفارسي، الذي يستخدم أمريكيا لترهيب دول الخليج في الزمن الراهن، بعد "تمرد" بعض دولها على الاستراتيجية الأمريكية منذ فبراير 2022، مع انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
مقابل تلك الاستراتيجية الاستخدامية لدولة فارس مقابل "مناطق نفوذ" و"تبادل مصالح مركبة" أمريكيا، تعمل دولة الكيان، خاصة جهازها الأمني باستراتيجية معاكسة تماما، باستخدام الذريعة الفارسية لتعزيز علاقتها "الأمنية – التصالحية" مع دول خليجية، وكأنها هي القوة التي يمكنها كسر شوكة قوة بلاد فارس، وعمليا حققت كثيرا مما توقعت تحقيقه، رغم تعليق أخر محطات "التطبيع" مع العربية السعودية ارتباطا بالدور الإقليمي، وليس بحرب غزة مباشرة.
حرب الاستغلال المتبادلة لـ "بلاد فارس" تسارعت بعد حرب قطاع غزة، فأرسلت أمريكا قواتها العسكرية لبناء "قواعد متحركة" في البحر الأحمر، فيما تطل برأسها على المتوسط من مستقبل ميناء غزة السياسي، فيما تستعد دولة الكيان لتغيير مسار وفقا لما تراه مصلحة لا بد منها.
"حدث حرفيش" جرس إنذار مضاف للمكونات الفلسطينية وبقايا ممثليها من رسمية وفصائل، بأن القضية الفلسطينية باتت مجالا استخداميا والتعامل معها قطعة قطعة، من قبل واشنطن وتحالفها المركب، في ظل غياب رؤية شاملة، تكون سلاحا سياسيا لمحاصرة نتائج "أم النكبات".