فيما تنشغل عواصم المنطقة التي تواصل دور الوساطة لإبرام ما يشير البعض إلى أنّها الفرصة الأخيرة، تواصل حكومة الحرب التدميرية التصعيد على مختلف الجبهات، في القدس التي حوّلتها إلى ثكنة عسكرية، بعد أن دفعت بأكثر من ثلاثة آلاف شرطي لتأمين «مسيرة الأعلام»، التي تتعمّد الاستفزاز من خلال مرورها في باب العامود، والهتافات العنصرية الاستفزازية التي كانت في السنوات السابقة، سبباً في توتّر الصراع.
وتستمر الاقتحامات الإسرائيلية بتعاون بين جيش الاحتلال وميليشيات المستوطنين للمدن والمخيمات والقرى الفلسطينية، لتدمير البُنى التحتية، والمنازل ومواصلة الاغتيالات والاعتقالات.
وعلى جبهة الجنوب اللبناني، يرتفع صراخ المسؤولين العسكريين والسياسيين في حكومة «مجلس الحرب» للاستعداد لتوسيع دائرة الصراع الحربي، ولأجل ذلك تستدعي حكومة الحرب خمسين ألفاً من قوات الاحتياط، رغم أنّ بعضهم برّر القرار بالحاجة لمتابعة الهجوم على رفح.
وفي قطاع غزة، تستمرّ معدّلات القتل والتدمير بالارتفاع، وبينما تستمرّ الحرب ضروساً على محافظة رفح، يشنّ جيش الاحتلال جولة ثانية تدميرية على البريج ودير البلح وسط القطاع.
وعلى الصعيد السياسي تواصل حكومة الحرب عَبر الكنيست اتخاذ المزيد من القرارات لتقييد الوظائف القنصلية لسفارات الدول الأربع التي اعترفت بفلسطين مؤخّراً، بعد قرار آخر للكنيست، أيضاً، باعتبار «أونروا» منظمة إرهابية، وإغلاق مؤسّساتها في القدس وفرض غرامة مالية كبيرة عليها.
وتواصل حكومة الحرب الحجز والقرصنة على أموال المقاصة، والتضييق على عمل السلطة الوطنية، التي ترفض دولة الاحتلال أي دور لها في القطاع بينما معبر رفح لا يزال مغلقاً.
وتستمر حرب التجويع، حتى وصلت إلى الجنوب بعد الشمال، وظلّت مسألة إدخال المواد الإغاثية مرهونة بتوقيع الاتفاق.
واشنطن غارقة حتى أُذنيها في المسؤولية عن هذا التصعيد البشع، فبعد أن ادّعت تعطّل الميناء البحري العائم الذي أقامته على شواطئ غزّة عادت لتتحدّث عن إمكانية إسقاط المساعدات من خلال المروحيات.
ويقر الكنيست مشروع قانون لفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، بعد ضغوط مارستها حكومة الحرب على المشرّعين الأميركيين الذين بدورهم أقروا في مجلس النواب مشروع قرار بفرض عقوبات على المحكمة وقضاتها.
وفوق هذا وذاك تواصل الإدارة الأميركية إرسال المزيد من الأسلحة والذخائر لإسرائيل، وتقف عائقاً أمام عمل مؤسّسات الأمم المتحدة، ومنصّات العدالة الدولية، وتأمين الغطاء والحماية الدبلوماسية والسياسية لحرب الإبادة التي لا تتوقف إسرائيل عن ارتكابها ليل نهار.
ومع كل ذلك، حشدت الإدارة الأميركية عديد الدول الأوروبية والعربية، لدعم «خارطة طريق» جو بايدن التي أعلنها مساء الجمعة المنصرمة، ويقول إنها في الأصل مبادرة إسرائيلية، الخطاب الأميركي والموالون لـ «خارطة بايدن»، يتّهمون حركة حماس بأنّها الطرف الذي يُعطّل الوصول إلى الصفقة، باعتبار أنّ الموافقة الإسرائيلية مضمونة.
وجود قادة الفصائل الفلسطينية في القاهرة بدعوة مصرية في ظلّ وجود المبعوثين الأميركيين في القاهرة والدوحة، وهذا يحدث للمرّة الأولى تقريباً منذ بدء السعي من أجل صفقة التبادل، يشير إلى أنّ الحراك بات قريباً من الوصول إلى موافقة فلسطينية.
لا شكّ أنّ ترحيب «حماس» بالتعامل الإيجابي مع «خارطة بايدن» يشير إلى قدرٍ عالٍ من الرضا ولكن ثمة ما يحتاج إلى التوضيح والتأكيد، وربما بعض التعديلات.
برأيي أنّ المشكلة الأبرز تتعلّق بموضوع الانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع، والوقف التام للعدوان، وتلك هي القضايا التي تعترض عليها حكومة الحرب، وتدخل في دائرة القضايا غير الدقيقة التي أشار إليها بنيامين نتنياهو حين تحدّث عن «خارطة بايدن».
حكومة الحرب أرادت في خطوةٍ مكشوفة، وتشير إلى خلاف مع الإدارة الأميركية، أن تقدّم إدارة بايدن تعهّداً مكتوباً بأن لا تؤدّي الصفقة إلى وقف الحرب .
تكشف هذه المحاولة النوايا الحقيقية التي لا تخفيها حكومة الحرب من أنّها ستكتفي بتنفيذ المرحلة الأولى، وربما الثانية من الصفقة، ثم تنقلب على الاتفاق والضمانات والضامنين.
يحاول نتنياهو أن يجمع بين التعاطي مع الإدارة الأميركية و«خارطة طريقها»، من دون الالتزام بكافة مراحلها، وفي الوقت ذاته إرضاء سموتريتش وبن غفير، اللذين يهدّدان كلّ الوقت بفرط الحكومة في حال توقيع اتفاق يؤدّي إلى وقف العدوان.
هكذا يكون نتنياهو قد ضمن رضا الإدارة والمتحمّسين لصفقة التبادل في «مجلس الحرب»، ويقصد غانتس وآيزنكوت ووزير الحرب غالانت، وأيضاً رضا المتطرّفين في حكومته الذين يصرّون على مواصلة العدوان.
اللعب بات على المكشوف ومن دون الحاجة للتستّر على قضايا لم يعد بإمكان نتنياهو إخفاءها. في الواقع ثمة قضية أخرى مهمّة بالنسبة لفصائل المقاومة، وهي التي تتعلّق بالضمانات في ظل اللعب المكشوف الذي يمارسه نتنياهو وأركان حربه وحكومته الفاشية.
في «خارطة طريقه» قال بايدن، إنها ستؤدي إلى وقف دائم للقتال، ولكن ما الذي سيُرغم الإدارة الأميركية على إلزام الدولة العبرية بذلك إن هي، والأرجح، تنصّلت من الاتفاق في بعض المراحل؟
الإدارة الأميركية شريكة بالكامل في العدوان منذ يومها الأوّل وحتى الآن، وهي لا تزال تتحدّث علناً عن دعمها للقضاء على «حماس»، ونزع سلاح المقاومة، وإبعادها عن أيّ دورٍ في القطاع بعد العدوان.
وإذا كانت الإدارة الأميركية جهة غير موثوقة، باعتبارها طرفاً في الحرب الإجرامية، وتعمل لتحقيق أهدافها، فإنّ الوسطاء العرب يستطيعون ضمان التزام الفصائل، لكنهم لا يستطيعون ضمان التزام دولة الاحتلال أو التزام أميركا بالضغط الفعّال من أجل وقف حرب الإبادة الجماعية والتجويع.
على كلّ حال لا يبدو أنّ ثمة خيارات أمام فصائل المقاومة التي عليها أن تتعامل إيجاباً مع «خارطة الطريق»، مع محاولة تحصينها، والحصول على ضمانات مكتوبة، والعمل مع الوسطاء العرب، لفتح «الخارطة» على المسار السياسي، الذي تغفله «خارطة بايدن»، مع أخذ كلّ الحذر ميدانياً استعداداً للتعامل مع ما يطرأ من احتمالات ومحاولة ربط الصفقة بما يجري في الضفة الغربية والقدس.