التأمُّل ضرورة من ضرورات التفكير السّويّ، وحاجة ماسّة لكل فلسفة، خصوصاً عندما يصل إلى درجة الإدراك العميق لما هو تجريدي من، وفي الظواهر، وعندما ينجح هذا التأمُّل بالوصول إلى جدليّة العلاقة بين ما هو مجرّد، وما هو ملموس.
تعالَوا نتأمَّل معاً الواقع الإسرائيلي اليوم.
أليس الواقع الإسرائيلي اليوم - ناهيكم عمّا كان عليه قبل هذه الحرب العدوانية - بما ينطوي عليه من أزمات متلاطمة، ومتلاحقة على كلّ الصعد والمستويات، وبما يتعلق بالدور والمكانة، والقوة والتماسك، وبالظروف الداخلية والخارجية، وفي كل الأبعاد، بما في ذلك الهويّاتية، والثقافية، إضافةً إلى السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
أليس هذا الواقع أمام أخطار، أقلّ ما يُقال بشأنها: إنها مصيرية ووجودية؟
هذا الواقع - أي باعتبار الأخطار المحدقة به - هو كذلك فعلاً، لم تعد مجرّد استنتاجات نظرية، أو تقديرات ذهنية، أو حتى معتقدات يقينية، إيمانية، ولم تعد هذه التقديرات حول هذه الأخطار مجرّد تمنّيات رغائبية يحلم بها أعداء الدولة الصهيونية، وإنّما يقرّ بها، ويجاهر بها الإسرائيليون أنفسهم، وليس من ذوي الأفكار «اليسارية»، وإنما بات الأمر مطروحاً من قبل الجميع في دولة الاحتلال نفسها، ومن قبل المؤسسات العسكرية والأمنية، ومن قبل العامة والخاصة، من النُّخب، ومن الجمهور العريض، كلّ من زاويته، وكلّ حسب رُؤاه وأفكاره ومعاناته، وحسب رغباته وتمنّياته، وحسب مخاوفه واعتباراته.
أليس هذا الوجه، أو لنقل هذا الواقع، هو ما نشهده ونعيشه ونراه بأُمّ العين؟
هذا فيما يتعلّق بالواقع القائم اليوم في دولة الاحتلال.
والآن تعالَوا لنرَ كيف يمكن أن تخرج دولة الاحتلال من هذا الواقع. ليس من وجهة نظر أعدائها، وإنّما من وجهة نظر جمهورها، وقياداتها، ومن وجهة نظر حلفائها وداعميها، ومن هم على استعداد كامل للدفاع عنها وحمايتها.
من الزاوية المجرّدة، وقبل الملموسة، فإنّ المشروع الصهيوني نفسه هو مشروع للحرب العدوانية الدائمة، ولـ»السلام» المفروض بشروط هذه الحرب.
وبهذا المعنى الجوهري والعميق، فإنّ الحرب العدوانية الذي قام بها المشروع الصهيوني على الشعب الفلسطيني والتي توّجتها الحركة الصهيونية في العام 1948، والتي انتهت بقيام إسرائيل، واقتلاع حوالى مليون فلسطيني من أرضه، وطرده منها، والاستيلاء على 78% من فلسطين التاريخية قد أدّت إلى النكبة الفلسطينية التي ما زالت مستمرّة بأشكالٍ جديدة ومتجدّدة منذ تلك النكبة وحتى يومنا هذا.
ثمّ جدّدت الحركة الصهيونية مشروعها التوسّعي والعدواني بتجاوز قرار التقسيم 181 العام 1947، ثم بالعدوان على مصر، واحتلال قطاع غزّة في العدوان الثلاثي العام 1956، ثم احتلال سيناء والجولان والضفة الغربية، وإعادة احتلال قطاع غزّة.
وعندما كانت تظهر أيّ أشكال لمقاومة هذا الاحتلال كانت الدولة الصهيونية تعاود الحروب والعدوان، وكانت تعاود الاحتلال كما جرى في الحرب ضد منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وقبلها ضد المقاومة الفلسطينية في الأردن، وبعد ذلك ملاحقة المنظمة في الخارج، وكانت الحرب هي وسيلتها، وكان التوسع والاحتلال هو إستراتيجيتها، ولم تقدم أيّ شكل من أشكال «السلام» الحقيقي إلّا بشروطها، ووفق اعتباراتها ومصالحها، وهي اعتبارات غالباً ما تكون هي نفسها الاعتبارات والمصالح «الغربية» التي أُنشئت الدولة الصهيونية أساساً لتحقيقها.
لو كانت إسرائيل دولة ترغب بالتعايش في هذا الإقليم ومع شعوب هذه المنطقة، حتى ولو أنّ ظلماً، وإجحافاً كان سيلحق بالشعب الفلسطيني على كلّ حال، فقد كان بمقدورها أن تصل إلى هذا النوع من التعايش، ولما أهدرت دولة الاحتلال كلّ الفرص «التاريخية» التي أُعطيت لها على مدار أكثر من 76 عاماً من هذا الصراع.
فقد تجاوزت القرار 181، ورفضت الانسحاب من القطاع العام 1956، إلّا بعد التهديد الأميركي، ورفضت الانسحاب من الأراضي التي احتلتها العام 1967، ورفضت «مبادرة روجرز»، التي كان قد وافق عليها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ثم رفضت «مبادرة السلام العربية»، وما زالت ترفض كل بادرة، أو مبادرة من شأنها أن تجعل من هذه «الدولة» دولة طبيعية في هذه المنطقة، وهي تصرّ على تصفية حقوق الشعب الفلسطيني، وليست على أيّ استعداد من أيّ نوعٍ كان للاعتراف بأي حقوق وطنية لهذا الشعب.
لم تكتفِ دولة الاحتلال بذلك، بل كرّست نظاماً للفصل العنصري، وحصرت حق تقرير المصير باليهود في فلسطين التاريخية رغم وجود أكثر من 7 ملايين يعيشون عليها.
لماذا يصرّ المشروع الصهيوني إذاً على إستراتيجية العدوان الدائمة؟ ولماذا يصرّ هذا المشروع على فرض شروط العدوان ونتائجه على مفهوم دولة الاحتلال لـ»السلام»، ويرى في «السلام» القائم على الحدّ الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني خطراً على هذا المشروع الصهيوني وأهدافه؟
هنا، وهنا بالذات نحتاج إلى التأمُّل.
يبدو أنّ دولة الاحتلال قد وصلت بقدر ما يتعلّق بالأمر بواقعها «الجديد» الذي كشفته الحرب الإجرامية التدميرية المستمرة على القطاع إلى فقد تدريجي، ولكنه متسارع لثلاثة عناصر هي في مجملها، وفي واقع تبادل التأثير فيما بينها تساوي أو توازي وجودها ومصيرها ومبرّر بقائها:
العنصر الأوّل، فقدها القدرة على شن حروبها العدوانية، كما كانت تشنها في الماضي، أو فقدها للقدرة على الاستمرار بها، إلّا بأثمان باهظة لا تقوى على تحمُّلها، أو أن تتحوّل القدرة على تحمُّلها إلى أزمات داخلية وخارجية تقوّض من الوصول إلى النتائج التي تراهن على تحقيقها، أو تتحوّل هذه الحروب العدوانية وبالنتائج المتواضعة لمردودها إلى معاول تهدم في بنيتها السياسية والاجتماعية، إضافةً إلى الاقتصادية والنفسية المعنوية منها.
ولعلّ تراجع قوّة الردع لديها، وتراجع أداء جيشها قد حالا دون أن تتمكّن من التراجع المناسب، في الوقت المناسب، وقبل أن يؤدي هذا التراجع في الحالتين إلى وقف التدهور المحتوم في مكانتها ودورها وتماسكها ككيان ودولة.
إسرائيل ليس لديها اليوم ترف العودة إلى ما كانت عليه قبل هذا العدوان، وليس بإمكانها أن تطمح إلى ذلك حسب كلّ التقديرات، بما فيها التقديرات الإسرائيلية نفسها، لأنّها أقصى ما يمكن أن «تعود» إليه بعد هذا العدوان هو الخروج «الآمن» من الزلزال الذي ضربها، وهو خروج صعب على كل حال.
مفهوم الزلزال «الآمن» يفعل فعله المباشر في منطقة التماس بين البقاء، أو الوجود، وبين التراجع الخطير في الدور والمكانة. ولم يعد أحد في هذا العالم يؤمن بأنّ إسرائيل قادرة على العودة إلى ما كانت عليه قبل هذه الحرب، خاصة أن حروبها تتحوّل موضوعياً إلى إجرامية.
العنصر الثاني، هو فقد القدرة على الذهاب إلى سلام حقيقي، مهما كان هذا السلام مُجحفاً بالحقوق الوطنية الفلسطينية.
وتأسيساً على إخفاقات الحرب الإجرامية، وفقد القدرة على الانتصار فيها أصبح «السلام» الذي يؤمن استمرار الهيمنة الإسرائيلية مستحيلاً من زاوية أهداف ومنطلقات المشروع الصهيوني.
وبقدر ما أصبحت الحرب خطراً وجودياً على إسرائيل، فقد أصبح السلام الذي يُبنى على شروط مختلفة عن شروط السلام الذي تفرضه الحروب الإسرائيلية أشدّ خطراً عليها، وذلك لأنّه - أي السلام القائم على الشرعية الدولية - سينسف أُسس ومرتكزات المشروع الصهيوني، وسيؤدي حتماً إلى فقد المكانة والدور والوظيفة من وجهة نظر هذا المشروع، وسيكون هذا النوع من الخطر، وجودياً، ومصيرياً وسينتفي معه المبرّر «التاريخي» الحقيقي للمشروع الصهيوني، وللدولة التي أقامها، وجسّدها في الأرض الفلسطينية.
أمّا العنصر الثالث، فهو أنّ إسرائيل الصهيونية كدولة قد نشأت وتطوّرت وتفوّقت بفعل عاملَين اثنين، ليسا ثابتَين أو مستقرَّين من الناحية التاريخية:
الأوّل، هو الدعم «الغربي» المطلق، والثاني، هو الضعف العربي المطلق - والكلام هنا للمرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري.
نحن نشهد في هذه المرحلة بالذات تراجع «الغرب» وانحداره المتسارع، ونشهد مئات الملايين من الشعوب العربية، وموقفها الحقيقي من هذه الدولة، إضافةً إلى شعوب العالم كلّه.
وعندما يتراجع «الغرب» ستتراجع الدولة العبرية، وعندما تتمكّن الشعوب العربية من أخذ زمام الأمور بيدها، فسيكون الحساب عسيراً معها، وعندما تفرض شعوب العالم «الغربية» رؤيتها على الأنظمة «الغربية»، فلن يحتاج الأمر إلى عناء كبير لفهم مستقبل المشروع الصهيوني في هذا الإقليم.
فلا الحرب باتت سهلة، ولا السلام بات ممكناً من منطلق الهيمنة، ولا «الغرب» في أحسن أحواله، ولا الشعوب العربية بغافلة عن إجرام إسرائيل.
ستحتاج «إسرائيل» الصهيونية إلى عدّة معجزات للخروج «الآمن» من واقعها.