المقاومة بحد ذاتها ليست هدفا، إنما هي مجرد وسيلة.. دور المقاومة أن تحمي الشعب وتضحي بنفسها من أجله.. الأفكار والعقائد وُجدت لخدمة الإنسان.. وليس العكس.
والقيادة الواعية تتجنب استخدام الأساليب التي تستدعي الحرب، لما تجلبه معها من دمار شامل؛ فتختار الوسيلة الأنسب لممارسة مقاومتها، والتي تلحق الضرر بالعدو، وبأقل قدر من أرواح الناس، أي المقاومة الشعبية والسلمية؛ هكذا فعل غاندي وحرر الهند، وهكذا فعل مانديلا وحرر جنوب أفريقيا، وهكذا فعل مارتن لوثر وانتزع الحقوق المدنية لمواطنيه السود، وحرر أميركا من نظام التمييز العنصري، وكذلك فعل بورقيبة حين حرر تونس من الاستعمار الفرنسي.
والقيادة الواعية إذا رأت أن الكفاح المسلح والعمل العسكري هو الأسلوب اللازم لإحداث التغيير، تختار الأدوات والوسائل والمواقيت والأسلوب الأنجع بما يتناسب مع قدراتها، وقدرة الشعب على التحمل.. ولا تختار اللعب في ساحة العدو المفضلة، حيث يمتلك التفوق المطلق.
المقاومة تختار الوقت المناسب لتوجيه ضربتها القوية وخوض معركتها الحاسمة، أي حين تنضج الظروف، وتلوح في الأفق معالم التغيير والانتصار، هكذا فعل هوشي منه والجنرال جياب في معركة ديان بيان فو، وثوار الفيتكونغ في هجومهم على سايغون، والثوار الكوبيون بقيادة كاسترو في هجومهم الأخير على هافانا.
المقاومة تختار أماكن قتالها، وتوجه ضرباتها بعيدا عن المدنيين من أبناء شعبها، هكذا كان يفعل عمر المختار، وعبد الكريم الخطابي وعز الدين القسام وتشي جيفارا.
والمقاومة تتجنب ضرب المدنيين من أعدائها، هكذا كان يفعل الجناح المسلح للمؤتمر الوطني الأفريقي «رأس الحربة» في نضاله ضد حكومة «الأبارتهايد»، وهكذا كان يفعل الجيش الجمهوري الإيرلندي في كفاحه ضد الاحتلال البريطاني.
وقادة المقاومة يكونون بين جنودهم في الميدان وفي ساحات القتال، وفي الصفوف المتقدمة، هكذا فعل عبد القادر الحسيني، وياسر عرفات وسعد صايل وجيفارا وجياب... والمقاتلون يلتزمون بالزي العسكري لتمييزهم عن المدنيين، فيجنبونهم الاستهداف من قبل العدو.
قائد المقاومة يخطط طويلا، ويضع كل الاحتمالات، وحتى يضمن سلامة جنوده يضع خطة الانسحاب قبل خطة الهجوم، هكذا كان يفعل خليل الوزير «أبو جهاد».
والمقاومة حين تستشعر بالخطر القادم، أو حين تعد لمعركة كبرى تتخذ كافة احتياطاتها وتضع خططا بديلة لتأمين الجبهة الداخلية؛ فقبل اجتياح بيروت 1982 تم تأمين مخازن المياه والوقود والطعام، وفُتحت الأفران التي كانت تزود الجميع (لبنانيين وفلسطينيين) بالخبز وبالمجان، وطوال فترة الحرب لم يعانِ السكان من الجوع والعطش. بل إن منظمة التحرير كانت تضخ كميات كبيرة من أموالها في الأسواق اللبنانية حتى لا تنهار الليرة اللبنانية، والتي انهارت فعلا بعد الخروج من بيروت.
وكذلك فعل عبد القادر الجزائري، الذي اهتم بتأمين مخازن الحبوب والطعام وآبار المياه في كل قرية وبلدة جزائرية قبيل الهجوم الفرنسي الكاسح، الذي أجبره على المغادرة.
وقبيل حرب الخليج الثانية 2003 وفّر النظام العراقي كميات كبيرة من المواد التموينية والغذائية وكافة مستلزمات الصمود والبقاء ولمدة ثلاثة أشهر، ووزعها بالمجان على جميع السكان.
وقائد المقاومة حين يستشعر بالخطر الوجودي يهدد شعبه، ويعرض حياة السكان المدنيين لخطر الموت، ويستشرف نذر الكارثة يقرر الانسحاب؛ هكذا فعل عبد القادر الجزائري، حين أدرك أنه لن تأتيه نجدة من الخارج، وأنَّ صموده سيكلف أرواح الآلاف من شعبه قرر الانسحاب واختار طواعية منفاه، وصار بطلا في قلوب الملايين لأنه قدّم سلامة شعبه على أي شيء آخر.
وقائد الجيش ينسحب من الميدان فورا، حين يدرك أن جيشه في خطر، وأنه لا مجال لحسم المعركة، هكذا فعل خالد بن الوليد في موقعة مؤتة، فسمّاه النبي الكريم بالكرار. وهكذا فعل ياسر عرفات حين قرر الخروج من بيروت، وهكذا فعل أنور السادات حين وافق على وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر، وكذلك فعل صدام حسين حين قرر الانسحاب من الكويت، بصرف النظر عن موقف كلٍ منا إزاء هؤلاء القادة، وما فعلوه بعد ذلك، المهم أنهم آثروا سلامة جيوشهم على استكمال مغامرة عسكرية غير مضمونة.
وقائد المقاومة يعتذر من شعبه حين يقدم على مغامرة عسكرية يكون ضررها أكثر من فائدتها، ويتعلم من أخطائه، هكذا فعل السيد حسن نصر الله بعد حرب تموز 2006.
الأمثلة والنماذج التاريخية يتوجب فهم روحها ومضامينها وعبراتها، ولا يجب تقليدها حرفيا.. وبالمناسبة، أي مثال تاريخي لا بد وأن يحمل السلبيات والإيجابيات، وسيتضمن إنجازات وانتصارات وخسائر وإخفاقات في الوقت ذاته.
قادة «حماس» أخذوا من كل تلك الأمثلة فكرة التضحية والأعداد المهولة من القتلى المدنيين (ثمن الحرية)، واختاروا أسلوبهم الفريد والمختلف في المقاومة على عكس كل النماذج السابقة.
الشعب هو الذي يدفع الثمن، ويتلقى الضربات، ويعاني، ويضحي بأرواحه وممتلكاته ومستقبله.. ولم يتم اتخاذ أي خطوات أو حتى أفكار لتأمين الجبهة الداخلية.
صار الحزب وسلامته وتأمين مستقبله السياسي أهم وأولى من حياة الناس، وصار الشعب بأسره مكرسا ورغما عنه لخدمة الأيديولوجيا والعقائد والمواقف السياسية.
صارت مشاهد مآثر البطولات الفردية لمقاتلي «القسام» تعويضا كافيا عن كل دمار غزة، وخسارة كل تلك الأرواح.
وقد تساوق قادة المقاومة، والناطقون باسمها، ومحترفو التحليل السياسي على الفضائيات مع الفكرة الإسرائيلية المضللة بأن هدف إسرائيل المركزي هو القضاء على «حماس» وتحرير الرهائن، وبالتالي فإن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها، ولم تحقق منها شيئا.. وكأنَّ كل هذا الدمار والتخريب والتجريف ومقتل وإصابة 150 ألف إنسان جاء بالخطأ، وعن طريق الصدفة، أو هي مجرد أعراض جانبية غير مقصودة!
ونسينا الأهداف الكبرى التي ثار من أجلها الطوفان، وصار الهدف الأهم وقف الحرب، وعودة «حماس» إلى الحكم.
وأن فلسطين انتصرت لأن المقاومة وقادتها بخير ولم يمسسهم سوء!