من غير المنطقي، أن يكون قد جرى تصميم الوقت، بحيث يعتقد أحد أن المجزرة الرهيبة التي ذهب ضحيّتها أكثر من 270 شهيداً و700 مصاب في النصيرات، رد مباشر على قرار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس الذي وضع جيش الاحتلال الإسرائيلي في قائمة العار إلى جانب «داعش» و»النصرة» و»القاعدة».
توقيت المجزرة، مرتبط في الأساس بعملية مركّبة جرى الإعداد لها منذ أسابيع على الأقل كما تشير المعلومات المعلنة من قبل جيش الاحتلال الذي يدّعي كيانه أنّه الأكثر أخلاقية في العالم.
ردود الفعل الرسمية الإسرائيلية على قرار غوتيريس، جاءت كالعادة، مستهترة، مستفزّة، وقحة، ومتحدّية للمنظومة الدولية بما في ذلك الدولة الأكثر تأثيراً في الأمم المتحدة ونقصد الولايات المتحدة التي لا تزال تقف على رأس النظام الدولي، والتي بدأت تترنّح، تحت وطأة المتغيّرات الدولية.
بنيامين نتنياهو، وعديد وزرائه، ومندوبه الدائم في الأمم المتحدة جلعاد أردان، الذي مزّق ميثاقها أمام ممثلي 194 دولة في أيلول المنصرم، اعتبروا أنّ الأمم المتحدة هي التي أدرجت في القائمة السوداء، وأنّها اصطفّت إلى جانب حركة حماس.
وضعُ دولة الاحتلال في قائمة العار بسبب استهدافها الأطفال وقتلهم، دفعها خطوة كبيرة نحو أن تصبح دولة منبوذة، ويشكل مستنداً للمحاكمات الجارية سواء من قبل محكمة العدل الدولية، أو المحكمة الجنائية الدولية، فضلاً عن المحاكمات الأخرى، التي تجريها مؤسّسات حقوقية دولية، ووطنية، ويقدّم معياراً اتهامياً للدول التي تزود جيش العار بالأسلحة والذخائر، ويحثّها على التوقف عن إمداده بأسلحة القتل والتدمير.
وإذا شئنا الحقيقة فإنّ دولة الاحتلال وجيشها يفترض أن يتمّ إدراجها في كل قوائم العار، بسبب استهدافها المستشفيات، وبسبب استهدافها النساء والمسنّين، وبسبب تعاملها الوحشي مع الأسرى.
عود على بدء، فإنه إذا لم تكن مجزرة النصيرات ردّاً مباشراً أو غير مباشر على قرار ضمّ جيش الاحتلال إلى قائمة العار، فإنّ الفعل الذي ارتكبه، يشير إلى منطلقات أصيلة في صميم عقيدة جوهره، دولة الاحتلال.
التاريخ يؤكّد حقيقة أنّ هذا الجيش بُنيَ في الأساس على عقيدة منهاجية، تقوم على إبادة الأغيار، وعدم التمييز بين مدني وعسكري، وبين طفل أو شاب.
سجل هذا الجيش منذ أن كان منظمات عصابية قبل احتلال فلسطين العام 1948، وحتى بعد أن قامت الدولة العبرية، هذا السجل طافح بالمجازر الجماعية، والقتل غير المبرّر وانتهاك كلّ قوانين إدارة الحرب، والقوانين الإنسانية والدولية.
لقد احتفل رئيس حكومة الاحتلال، وأعضاء «مجلس الحرب»، والوزراء بنجاح جيشهم في تحرير أربعة أسرى أحياء، دون أن يصدر عن أيّ منهم ولو كلمة اعتذار أو حتى إشارة إلى دماء الفلسطينيين التي أغرقت شوارع وأزقة النصيرات.
يتباهى نتنياهو، وزملاؤه، بأنّ الجيش نجح في القيام بالعملية، رغم أنّه فقد ضابطاً في المعركة.
اعترافات جيش الاحتلال تشير إلى أن 1000 ضابط وجندي اشتركوا في العملية التي وصفوها بالبطولية، بالإضافة إلى عشرات الطائرات الحربية والمُسيّرة والمروحية حلّقت في أجواء النصيرات، وألقت حممها على البيوت، فضلاً عن مشاركة البحرية والمدفعية، وسلاح الدبّابات.. أيّ نصرٍ هذا الذي يتحقّق بمشاركة كل هذه القوات الغازية التي كانت في زمنٍ سابق تستطيع احتلال دولة، وكسر شوكة جيشها؟
ليس هذا وحسب، بل إن الشراكة الميدانية، تجلّت بوضوح بين الجيشين الإسرائيلي والأميركي، في إدارة المجزرة.
تنفي الولايات المتحدة مشاركتها في المجزرة، واستخدامها الرصيف البحري العائم، لكن دولة الاحتلال فضحت هذه الشراكة، وفضحها فيديو أظهر مروحية تنقل الأسرى الذين تم تحريرهم، والتي تواجدت في منطقة الرصيف العائم.
هل يمكن بعد ذلك للولايات المتحدة أن تواصل الادعاء بأنّها دولة وساطة، ودولة ضامنة لأيّ اتفاق يؤدي إلى صفقة؟
في الحقيقة، فإنّ هذا الادعاء ساقط في الأساس، ومنذ بداية الحرب التدميرية بل منذ أمد بعيد، ولا أقلّها أن «مبادرة بايدن» هي مبادرة إسرائيلية ترجمها بايدن إلى الإنكليزية.
بايدن نفسه وبعظمة لسانه، قال وردّد أكثر من مرّة أنّ ما قدّمه هو «خارطة طريق» إسرائيلية، ولأنّها كذلك، فقد أصرّ كل الوقت أنّ «حماس» هي التي تتحمّل المسؤولية عن تعطيل التوصل إلى الصفقة.
بايدن جنّد كلّ الحلفاء، وكثيراً من العرب، لصالح الموافقة ودعم الصفقة الإسرائيلية، وطالب علناً، كلاً من قطر ومصر، وآخرين بممارسة ضغط شديد على «حماس».
هدّد بايدن باعتقال قادة الحركة، وطردهم من العاصمة القطرية الدوحة، وبأن تغلق مصر عليهم كلّ منافذ الحركة، ولكنه كان تهديداً من بايدن قد لا يتطابق مع مواقف الدول المعنية.
غير أنّ بايدن وإدارته، يقفون حَيارى، في الإجابة عن سؤال: «.. وماذا فعلاً لو أنّ الحركة تعرّضت لتهديدات فعلية من قبل الدول التي طالبها باتخاذ إجراءات»؟
مرّة أخرى تسقط «مبادرة بايدن» الإسرائيلية، ويُغلق الفعل الإسرائيلي الأميركي الوحشي في النصيرات الطريق على إمكانية التوصّل إلى صفقة بالمواصفات الإسرائيلية.
المجزرة البشعة، قدّمت لـ»حماس» سبباً إضافياً آخر، لكي تستمر في التمسّك بمواقفها المبدئية إزاء الوقف النهائي والكامل للحرب، والخروج الكامل لجيش الاحتلال من قطاع غزّة.
لقد هزم بايدن نفسه، ومنح نتنياهو الفرصة للتهرّب من الضغوط التي يتعرض لها لوقف العدوان.
المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال بشراكة أميركية قد تكون إنجازاً تكتيكياً، ولكن لا يزال بيد المقاومة 120 أسيراً، سيكون من الصعب على دولة الاحتلال تحريرهم بعد ذلك.
الحرب الهمجية والعدوانية لا تزال مفتوحة، ولا تزال المقاومة صامدة وقوية، وإلّا لما ظهر هذا التشدّد في موقف المفاوض الفلسطيني.
سيدّعي نتنياهو أنّ استخدام القوّة هو السبيل لتحرير أسراه، ولكن ذلك سيشكّل معياراً آخر للفشل.