مبالغ بها حفلة الفرح المبالغ فيها التي أقامها نتنياهو بعد قيام أجهزة مخابراته بتشكيلاتها المختلفة مع قواته البرية والبحرية والجوية وطائرات التجسس بالتعاون مع وحدات "دلتا" الأمريكية الخاصة بتحرير الرهائن، وطائرات التجسس البريطانية التي تتبع بصمة الصوت، والتي لم تكن تغادر سماء قطاع غزة، وكذلك الجمع المعلوماتي والاستخباري الواسع من خلال أكبر قاعدة تجسس استخبارية أقامتها أمريكا مع بريطانيا وكندا ونيوزلندا واليابان في النقب، قاعدة "أورانيم، والتي تزود معلوماتها باستمرار للوحدة " الإسرائيلية " التجسسية ( 8200) استطاعت من خلالها "تحرير" أربعة أسرى مدنيين موجودين لدى أسر فلسطينية في مخيم النصيرات في بنايتين متجاورتين، والتي حتى اللحظة لم يتم الكشف عن كيفية الوصول إليهما. صحيح أن هناك جهدا استخباريا ومعلوماتيا وأمنيا وعسكريا شارك في العملية، ولكن الظروف التي احتجز فيها الأسرى ، والأمكنة التي مكثوا فيها هل كانت بشكل دائم أم جرى نقلهم من مكان لآخر بسبب الظروف الأمنية ؟؟، وكذلك من كانوا يحرسونهم، هل كانوا أنفسهم طوال المدة، أم جرى استبدالهم؟؟ تفاصيل من الصعب الخوض بها الآن، حتى تنجلي الأمور بشكل واضح ، ولكن هذه العملية التي يبدو بأنه قتل فيها عدد أخر من الأسرى وقائد كبير في وحدة " اليمام" ، حسب ما قاله الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة، سيلقي بظلاله على احتفالات وفرحة نتنياهو. قائد سلاح الجو الإسرائيلي السابق إلياهو بن إيتان قال أن "هذا الحدث موضعي وتأثيره محدود"، خاصة بعدما "تذهب السكرة وتأتي الفكرة".
نتنياهو الذي يعيش في أزمة ومأزق عميقين، فقد كان ينتظر مؤتمرا صحفيا لزعيم المعسكر الوطني بني غانتس ، يعلن فيه انسحابه من مجلس الحرب المصغر ومعه غابي إيزنكوت على خلفية عدم وجود استراتيجية واضحة للتعاطي مع الحرب على قطاع غزة وكيفية الخروج منها، ولذلك جاءت هذه العملية، لكي تؤجل أو تلغي مؤتمر غانتس الصحفي وبالتالي عدم خروجه من مجلس الحرب، الذي كان سيتفكك بخروجه هو وايزنكوت، ما سيزيد من الضغوطات على نتنياهو. هذه العملية، جاءت وبشكل مؤقت لكي تخفف من حدة المظاهرات والاحتجاجات لأهالى الأسرى ضده في الشارع الإسرائيلي، وإن كان أحد الأسرى الذين جرى "تحريرهم" وأهله قد دعوا إلى ضرورة استعادة الأسرى عبر صفقات التبادل، ولكن نتنياهو يعتبر بأن نجاح هذه العملية بالضرورة أن يجري توظيفها لخدمة نهجة وموقفه بأن عملية تحرير الأسرى فقط تكون عبر زيادة الضغط العسكري على قوى المقاومة الفلسطينية وفي المقدمة منهم حركة حماس، ولذلك هو دعا لتحرير الأسرى من خلال عمليات مشابهة ووسائل أخرى، وأنه يجب أن لا تتوقف الحرب على قطاع غزة.
ومن هنا تزداد خشية أهالي الأٍسرى من أن يتخلى نتنياهو عن عقد أي صفقة تبادل لاستعادة الأسرى، ويستمر في مغامراته العسكرية التي قد تتسبب في قتل هؤلاء الأسرى وعودتهم في أكفان بدل عودتهم أحياء. صحيح أن نتنياهو مؤقتاً سيستفيد من هذه العملية، ولكنها لن تنقذه من مأزقه بفشله الاستراتيجي المتعمق في القطاع، فلا إنجاز عسكري أو ميداني تحقق ولا نصر أو صورة نصر، بل بلغة المحلل العسكري في " هآرتس" العبرية عاموس هارئيل:" إسرائيل تعاني من فشل استراتيجي متعدد الأبعاد، وعالقة على جميع الجبهات في قطاع غزة وجبهة الشمال والعالم، خاصة أن الواقع والتحليل الملموس يقول، بأن عدم الوصول إلى الأسرى واستعادتهم أحياء أو أموات في شريط جغرافي محاصر لا يزيد عن 365كم2 ومراقب على مدار الساعة، هو بحد ذاته إخفاق وعجز كبيرين، وأن ما تحقق بعد طول هذه المدة من عدوان مستمر وقتل وتجويع وتدمير ممنهج لكل البنى والهياكل والمؤسسات المدنية وقطاعاتها المختلفة صحية وطبية وشبكات كهرباء ومحطات مياه وصرف صحي وشوارع وطرقات ..الخ، ليس بالعمل الخارق أو المعجزة أو المبهر كما يحلو لغالانت وزير الجيش "الإسرائيلي" توصيفه، حيث يقول "هذه واحدة من أكثر العمليات البطولية إثارة للإعجاب التي رأيتها طوال 47 عاما .. نفذت قواتنا بشكل مثير وبتنسيق الخلية الواحدة بين مختلف الأجهزة عملية لا مثيل لها .. جرأة وتخطيط دقيق وتنفيذ بشجاعة وتصميم .. أظهر جنودنا شجاعة منقطعة النظير تحت نيران كثيفة في أصعب الأماكن في قلب مخيم للاجئين وفي منتصف النهار .. لا أتذكر أننا فعلنا أشياء كثيرة بهذه القوة والتعاون وبهذا النجاح، وقادة الجيش والمؤسسة الأمنية على رأسهم هاليفي قادوا العملية بشجاعة كبيرة رغم كل الانتقادات التي توجه لهم، والإفراج عن المختطفين لا يشكل نجاحا عملياتيا مبهرا فحسب، بل يشكل أيضا فرصة لتحقيق أهداف الحرب.
نتنياهو الذي شن حملة شرسة على الأمم المتحدة وعلى أمينها العام أنطونيو غوتيريش واتهمهم ب"اللاسامية والعداء لإسرائيل" لأنه قال بأنه سيعمل على ضم اسرائيل ل"قائمة العار" على خلفية الانتهاكات الخطيرة والجرائم التي ترتكبها بحق الأطفال في أماكن النزاع، وبأن اسمها سيصبح مقروناً مع جماعات بوكو حرام وداعش والقاعدة.
نتنياهو قال أن جيشه أكثر جيش " أخلاقي" في العالم، وبالأمس في مجزرة النصيرات التي أعقبت عملية استعادة أربعة أسرى، شن جيش الاحتلال عبر أسلحته الجوية والبرية والبحرية غارات عنيفة على مخيم النصيرات، مسكوناً بعقلية ثأرية انتقامية،حيث قتل خلالها نحو 210 من المدنيين الفلسطينيين منهم أطفال ونساء وشيوخ وجرح أكثر من 400 آخرين. نعم إنه أكثر جيش "أخلاقي"...؟؟، والأكثر أخلاقية منه امبراطورية الكذب عبر قادتها المتصهينين والمتهودين، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي بايدن ووزير خارجيته بلينكن ومسؤول قسم الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي ومستشار أمنه القومي جاك سولفيان، الذين ليس فقط أشادوا بهذه العملية و"الطريقة الشجاعة" التي نفذت بها، بل تجردوا من كل معاني القيم والأخلاق والإنسانية، بحيث لم يتطرقوا إلى العدد الكبير من المدنيين من الأطفال والنساء الذين كانوا ضحايا لهذه العملية ... هذه الإدارة الأمريكية تتعامل مع شعبنا ومع شعوب الأمة العربية والإسلامية وشعوب كل الشعوب المستضعفة، بأنهم مجرد كم زائد وأرقام وشعوب من الدرجة الثالثة، وفق نظرياتهم العنصرية من "نهاية التاريخ" إلى "صراع الحضارات"، بأنهم شعوب متوحشة ترفض التحضر والتمدن يجب القضاء عليهم.
هذه الأعداد الكبيرة من المدنيين الذين قتلوا في هذه العملية نحو 210 شهداء وأكثر من 400 جريح، بعرف بايدن وقيادته المتصهينة ويشاطرهم هذا الرأي العديد من قادة الدول الاستعمارية الغربية، بأنهم أضرار جانبية لهذه العملية العسكرية الضرورية، لا يجري الالتفات أو الأسف على قتلهم، هكذا تعامل الإعلام الغربي مع هذه العملية وبرر جرائم القتل.
إلى كل الذين ما زالت على عيونهم غشاوة من قادة دول النظام الرسمي العربي المنهار ومن أحلاف التطبيع بقديمه وحديثه وأصحاب المناطق الخضراء، عليهم أن يتحرروا من عقدة "ماما أمريكا"، ومن ثقافة استدخال الهزائم، لأن امريكا هي الشريك المباشر في العدوان على شعبنا الفلسطيني، وهي صاحبة فكرة الحرب، وهي من تقودها على شعبنا ، وهي من توفر السلاح والمال الذي يقتل به شعبنا، وهو من يؤمن الحماية القانونية والسياسية في المؤسسات الدولية لإسرائيل، وهي من تُفصل القانون الدولي على مقاساتها.
نتنياهو الذي يزهو هو ووزير جيشه غالانت كالطواويس بهذه العملية، يدركون تماماً بعدما تتكشف كل ملابسات هذه العملية، وعندما تبدأ الأمور بالعودة إلى حجمها الحقيقي، سيكتشفون بأن هذه العملية، وأن منحتهم نصراً مؤقتاً، ولكن في المآل النهائي إذا لم يراجعوا مواقفهم وسياساتهم، واستمروا في حربهم المجنونة والمدمرة، فإن تعمق مأزقهم وفشلهم الاستراتيجي سيذهب بهذه الدولة إلى الهاوية، وبأنه لن يتحقق نصر ساحق بل عار ساحق بلغة ليبرمان زعيم "إسرائيل بيتنا".