الحرب تُغير الكثير وتختصر الوقت، فكثير من التحولات ومنظومات القيم تحتاج إلى سنين طويلة لبلورتها. لكن الحرب بأنواعها المختلفة تختصر الوقت وتحقق التغيير الذي ربما يكون نحو الأفضل أو نحو الأسوأ.
على وقع الحروب يشهد العالم الرسمي تغييراً نحو الأسوأ في منظومة القيم. انظروا إلى ابتهاج دولة الاحتلال وجنرالاتها ومؤسساتها باستعادة 4 أسرى دون أن ينبسوا ببنت شفة عن الثمن الذي دفعه مئات الأبرياء الفلسطينيين بين شهداء وجرحى ومشردين وفاقدين لمنازلهم إضافة إلى ترويع الأطفال، جراء عملية الإنقاذ. كم كان مشهداً قابضاً نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي دفعت أقصى اليمين الفاشي والعنصري الى مواقع متقدمة وبخاصة في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا – عاصمة الاتحاد الأوروبي - . ماذا يعني تصويت الكونغرس الأميركي بالأغلبية على مشروع معاقبة المحكمة الجنائية الدولية لأنها تنتصر للقانون الدولي، وتتخذ الإجراءات النظامية لمحاكمة قادة إسرائيليين متهمين بالضلوع في جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني؟ وماذا يعني قبول الحزب الجمهوري الأميركي ترشيح ترامب المدان بـ 34 تهمة فساد وتزوير وتمرد على القوانين وتنظيم حملة تبرعات بقيمة 35 مليون دولار بعد صدور الأحكام عليه؟
وكم كان رد نتنياهو قبيحاً على قرار إدراج الأمم المتحدة لدولة إسرائيل في قائمة العار بعد تصنيفها على أنها دولة تقتل الأطفال، قال نتنياهو "إن الأمم المتحدة وضعت نفسها اليوم على القائمة السوداء للتاريخ، إن جيش الدفاع الإسرائيلي هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم!! ولا يمكن لأي قرار سخيف للأمم المتحدة أن يغير ذلك". جلعاد أردان مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة تفوّق على سابقيه بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة على مرأى ومسمع أعضاء الجمعية العامة بعد التصويت على عضوية فلسطين بأغلبية ساحقة. لم يتعرض أردان حتى لمجرد سؤال عن فعلته الاستفزازية النكراء. وكان رئيس الموساد السابق يوسي كوهين قد لاحق المدعية العامة للجنائية الدولية فاتو بنسودا وهددها بأمنها وأمن عائلتها بسبب تحضيرها لفتح تحقيق في جرائم حرب محتملة في الأراضي الفلسطينية. كما نرى كيف تنتقل إسرائيل من سياسة الإفلات من العقاب وسياسة رفض القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية جملةً وتفصيلاً، الى ازدراء ومعاقبة كل من يقدم الدلائل على انتهاكاتها وجرائمها حتى لو كان المتهم أرفع مؤسسات القانون والهيئات الدولية الوازنة. كمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان، ولم تستثن من ذلك الأمين العام للأمم المتحدة الذي اتُهم بالعداء للسامية وطُلب منه الاستقالة لمجرد مطالبته رؤية السياق الذي أتت منه عملية 7 أكتوبر.
الدول التي قدمت الدروس في حقوق الإنسان واحترام القانون وذادت عن منظومة الحريات والديمقراطية، هذه الدول تعتبر إسرائيل شريكاً في تلك المنظومة من القيم وتفتخر بذلك، لكنها لا تقبل ان تتشارك معها في منظومة قيم حرب الإبادة والتصفية والتدمير التي تجسدها على الأرض. لم تظهر هذه البلدان متناقضة بين أقوالها وافعالها كما هي متناقضة اليوم. إنها الحرب التي تكشف المسكوت عنه.
مقابل ذلك تكونت قوى منظومة قيم الحرية الحقيقية التي دافعت بشجاعة وإصرار عن الضحايا، منذ البداية عم الدعم والتضامن مع حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، في الوقت الذي تم فيه مناهضة حرب الإبادة الإسرائيلية. انتصرت احتجاجات الطلبة والاكاديميين والعمال والفنانين والمثقفين والحركات الاجتماعية المتعددة لقضية فلسطين وشعبها وحقوقه، انتصرت لحقوق الإنسان وللقانون، وأصبحت القضية الفلسطينية قضية عالمية، على قاعدة ان الحرية لا تتجزأ. لم تكن المشكلة في منظومة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام التي يرفع لواءها جبهة المتضامنين الدولية الآن، والتي توحدت من خلالها فلسطين مع العالم، كانت المشكلة في قوى الهيمنة التي غدرت بهذه المنظومة. لقد نجحت قوى الحرية من خلال الضغط على حكوماتها بتغيير مواقفها لصالح وقف الحرب. والحرب هي الميدان الذي تستطيع فيه دولة الاحتلال تدمير المجتمع الفلسطيني ومقومات بقائه.
إن التحول الأهم في الصراع هو وقف الحرب وتحييد آلة الدمار الإسرائيلية وخوض فلسطين المدعومة من الجبهة العالمية الصراع على قاعدة عزل نظام الأبارتهايد الاستيطاني الاستعماري ومحاسبته على جرائم الحرب والتدمير والنهب وسرقة الأراضي، المرتبط بممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير.
معسكر الحرب يعمل من اجل إعادة بناء السيطرة ما بعد الحرب في إطار خطط ومشاريع ومبادرات. وعلى جبهة فلسطين المدعومة عالمياً كيف يمكن الانتقال من الحرب الى ما بعد الحرب بما يخدم مصلحة الشعب الفلسطيني؟ هنا تغيب المبادرة الفلسطينية، وتستمر المواقف والتكتيكات على حالها. لا توجد مبادرات فلسطينية لوقف خسائر إضافية وتدمير إضافي، والانتقال من المواجهة العسكرية غير المتكافئة الى مواجهة يستطيع فيها المجتمع أن يلتقط أنفاسه ويضمّد جراحه ويعزز من وحدته ومن تحالفاته التي أثبتت أنها تستطيع عمل الكثير. ما يشجع على ذلك أن وقف الحرب سيفجر التناقضات في صفوف دولة الحرب، وسيبدأ عهد فلسطيني جديد. لا يكفي اكتفاء فلسطين بموقع الضحية وهي ضحية فعلاً. مطلوب الانتقال من السلب الى الإيجاب عبر تحديد الأولويات. أولى الأولويات الخروج من براثن الإبادة والدمار وانسحاب الاحتلال من القطاع والبدء بالإعمار. السؤال هل يتم ذلك عبر ورقة الأسرى والمحتجزين؟ يقول كل يوم وكل ساعة أن ورقة الرهائن يستخدمها نتنياهو ومعسكره لاستمرار حرب التدمير والمجازر. حتى المبادرة الأميركية لإنهاء الحرب لن تنهي الحرب بل ستنقلها من شكل إلى آخر. أولوية أخرى هي الشرعية الفلسطينية التي ينبغي أن يأتي أي تصويب او تعديل وتطوير مستقلاً ولا يخضع لحمّى التدخلات من كل حدب وصوب. كيف نواجه الإملاءات ومساعي إعادة بناء سيطرة جديدة على الوضع الفلسطيني برمته، بدءاً بفرض وصاية من خلال الخنق الاقتصادي. لا شك في أننا سندخل كشعب ومؤسسة وتنظيمات مرحلة جديدة لا ينفع فيها الخطاب القديم ولا الأساليب القديمة ولا تستطيع البنى القديمة تحمل المسؤولية ومواجهة التحديات بدون تطوير حقيقي تدريجي، ليس هو التجديد المطلوب أميركياً وإقليمياً بكل تأكيد، بل التطوير الذي تستدعيه مصلحة الشعب الفلسطيني. الخطر المحدق قد يجعل غير الممكن ممكناً، وقد يؤدي انعدام المبادرة الذاتية إلى فرض الإملاءات ووضع نهاية مؤلمة لما تبقى من استقلال القرار الفلسطيني.