مرة أخرى، وفي الوقت المناسب، تتخذ المقاومة، قراراً صائباً حين ترحّب بقرار مجلس الأمن الدولي، الذي حظي بموافقة 14 دولة مع تحفُّظ روسيا.
الترحيب الفلسطيني والاستعداد للتعاطي الإيجابي مع قرار مجلس الأمن الذي استند إلى «إعلان بايدن»، جاء متبوعاً بكلمة «لكن»، الأمر الذي نظرت إليه الإدارة الأميركية على أنّه مؤشّر على التفاؤل.
أرادت الإدارة الأميركية أن تأتي الموافقة الفلسطينية صريحة على كلّ ما تضمّنه قرار مجلس الأمن الذي تعترف أميركا أنّه إسرائيلي المنشأ، وتدّعي أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو موافق عليه.
ردود المقاومة وكذلك الردّ الإسرائيلي جاءت صريحة، فالمقاومة لا تزال ترى أنّ الاتفاق ينبغي أن ينصّ بوضوح على وقف دائم لحرب الإبادة الجماعية وانسحاب إسرائيلي كامل من قطاع غزّة.
الردّ الإسرائيلي على لسان نتنياهو هو الآخر، ينطوي على إصرار صريح وواضح، على رفض وقف الحرب التدميرية، قبل تحقيق كافة أهدافها، واستناداً إلى هذا الخلاف، يعلن أنّ حركة حماس ترفض القرار الأممي. الهُوّة لا تزال واسعة، استناداً إلى مواقف معلنة وحقيقية، لا تخضع لمناورات التفاوض، فالحكومة الفاشية قالت منذ وقت مبكر، وواصلت القول، إن وقف العدوان يعني إعلان هزيمة دولة الاحتلال، وتلك حقيقة، أيضاً.
الوسطاء بدؤوا التحرّك، بعد تسلّمهم ردّ فصائل المقاومة، ولا يزال يحدوهم أمل لجَسر الهُوّة، ولا يزال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يجول في المنطقة، لتصعيد الضغط على المقاومة.
واضح أنّ المفاوضات لا تعتمد إطلاقاً على حسن النوايا بين الطرفين ولا حسن النوايا بالضمانات، فالمفاوض الرئيسي مقابل الفلسطيني هو الطرف الأميركي الذي يفقد دور الوسيط، ولأنه شريك صريح في العدوان على القطاع.
الوسطاء العرب، لا يقدمون أنفسهم، ولا هم قادرون على توفير ضمانات حقيقية، لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، فالأساس أنهم ضامنو الطرف الفلسطيني وأنّ الولايات المتحدة هي ضامن دولة الاحتلال.
والسؤال هو: كيف يمكن لطرف في العدوان، وشريك كامل فيه أن يضمن نفسه، فلو كان الأمر كذلك، لكانت الإدارة الأميركية حريصة على تنفيذ الطلبات التي رفضها كلها نتنياهو، بشأن المساعدات، والهجوم على رفح، وتجنّب استهداف المدنيين.
خطاب الإدارة الأميركية موجّه للداخل الأميركي، بما في ذلك الحزب الديمقراطي، ويستهدف تبرئة ذمّة الإدارة من تهمة المسؤولية عن حرب الإبادة والتجويع الجارية في القطاع.
في الواقع، لا توجد ضمانة واحدة، ولا يمكن المراهنة، على أن أي اتفاق حتى لو كان فقط وفق نصوص قرار مجلس الأمن، سيكون موضع التزام لا من الدولة العبرية ولا من شريكها الأميركي.
كل الوقت، يجري التأكيد على أنّ الولايات المتحدة تسعى لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وإدخال المساعدات لسكان القطاع.
تحت الطاولة، ثمة مناورة أميركية إسرائيلية، وتنسيق لتوزيع الأدوار، ثم إطلاق يد جناة الإبادة ليعاودوا حربهم على الفلسطينيين بمجرد تحقيق هدف تحرير الأسرى.
خلال فترة الهدوء، التي يجري النص على أنّها تمتد لـ 42 يوماً خلال المرحلة الأولى، تراهن الإدارة الأميركية على تفكيك «محور المقاومة»، ووقف الهجمات من اليمن و»حزب الله» والمقاومة العراقية، ومن ثم الاستفراد بالمقاومة الفلسطينية.
لم يبق أحد في هذا العالم، لا يعرف أنّ دولة المشروع الصهيوني، دولة لا تحترم أي اتفاقيات، وأنّها تضرب بعرض الحائط كلّ وأيّ قرار يصدر عن أي مؤسسة دولية بما في ذلك مجلس الأمن طالما أنّها تستند إلى حماية أميركية كاملة.
وطالما أن موضوع المفاوضات محكوم بالقدرة على المناورة، فإنّ المقاومة تبدو في الموقع الأفضل، الذي يمكّنها من إفشال مناورات وأهداف الحلف الآخر. دولة الاحتلال بعد أن فعلت ما فعلته من جرائم في رفح، من دون الاستماع إلى التحذيرات الدولية والإقليمية، ستكون أمام سؤال: .. وماذا بعد رفح؟
الحديث يجري عن الانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب الهمجية، والتي تعني استمرارها من دون توظيف قوات برية كبيرة، والاعتماد على سلاح الجوّ، والمدفعية والبحر، لمواصلة القصف والاغتيالات، والتدمير، وعدم تمكين المقاومة من إعادة ترتيب صفوفها، ومنع «حكومة غزّة» من العمل. وفيما تصمد المقاومة في القطاع والضفة الغربية، فإنّ الأوضاع الإسرائيلية تزداد تدهوراً، خصوصاً بعد انسحاب بيني غانتس ورفاقه من «مجلس الحرب» وبدء «المعارضة» في الاصطفاف، خلف هدف فرض انتخابات مبكرة لإسقاط الحكومة.
هذا يعني أنّ الاحتجاجات لن تقتصر على أهالي الأسرى، وأنّ تظاهرات مئات الآلاف ستعود إلى الشوارع.
إلى ذلك، وربما الأهم، ما ينتظر جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي بدأ يشكو من قلّة المتطوّعين، ومن ضعف بعد تمرير مشروع قرار في الكنيست لتمديد قرار إعفاء المتدينين «الحريديم» من الخدمة العسكرية.
حسب مصادر احتلالية متعدّدة، فإنّ مئات عائلات جنود وضباط في جيش الاحتلال، وجّهوا رسالة لوزير الحرب يوآف غالانت، ورئيس هيئة الأركان هيرتسي هليفي. الرسالة تتحدث عن الطلب من أبنائهم الجنود التوقف عن المشاركة في الحرب، ووضع أسلحتهم جانباً والعودة إلى البيت. تعلن عائلات الجنود أنّه لا يمكن تمرير قانون كهذا في الوقت الذي يقدم فيه أبناؤهم حياتهم، وتتهم الحكومة بخيانة مواطنيها من أجل بقائها السياسي.
قضية إعفاء «الحريديم»، تلعب دوراً مهمّاً في تعميق الشروخ في المجتمع الإسرائيلي، وتضرب بقوة مبدأ المساواة للمواطنين اليهود.
ثمة من عليه أن يقاتل ويضحّي دفاعاً عن الكيان، وآخرون متفرّجون ينتفعون مما تقدم لهم الدولة من دعم، يجعلهم خارج إطار الحياة الاقتصادية والدفاعية. الوقت يمضي، وتفاعلات الحرب العدوانية، لا تزال تحفر في الرأي العام العالمي، وتحفر عميقاً في تماسك مجتمع إسرائيلي كولونيالي هشّ، وقد أصبح قابلاً للكسر.