حين يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أننا في إسرائيل "دولة لها جيش ولسنا جيشا له دولة" فهو لم يبتدع هذه المقولة من عنده، ولم يكن تعليقه من وحي الحادثة التي تسببت بالخلاف الذي اسماه البعض بـ"الفضيحة" المتصلة بممر المساعدات الإنسانية للمدنيين الفلسطينيين، لكن الموضوع يرتبط بتاريخ طويل للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية ومكانتها في حياة الدولة، والخلافات التي نشبت بين القيادات العسكرية والحكومة قبل بدء الحرب الأخيرة على غزة. في هذه الورقة نحاول تسليط الضوء على صراع المؤسستين السياسية والعسكرية التي تفاقمت بعد السابع من أكتوبر.
تحليل:
مقولة أن "الدول لها جيوش بينما الجيش الإسرائيلي له دولة" قديمة وشائعة يرددها مؤيدو الجيش ومعارضوه، ومردّ ذلك هي المكانة المركزية التي يتمتع بها الجيش الإسرائيلي في الدولة والمجتمع، ليس فقط لأن إسرائيل في حالة حرب دائمة، فإن لم تكن منخرطة في حرب مباشرة فهي تستعد للحرب المقبلة، ولكن لأن الجيش يلعب أدوارا سياسية وثقافية واجتماعية وحتى اقتصادية في حياة الدولة.
معظم القيادات السياسية من وزراء وأعضاء كنيست وحتى رؤساء السلطات المحلية والبلديات ومدراء الشركات يتخرجون من الجيش، ويرتبط تأهيلهم وخبراتهم بالمؤسسة العسكرية أكثر من الجامعات والمعاهد الأكاديمية. والجيش هو المؤسسة التي "يتعمّد" فيها الشبان بين سن18-21 قبل دخول الجامعات أو قطاعات الأعمال فيخوضون تجربة تربوية عسكرية واجتماعية تصنع "هويتهم الوطنية الإسرائيلية"، وهي تجربة لا يحظى بها اليهود المتدينون ولا العرب ما يجعلهم على هامش كثير من النشاطات الاجتماعية والاقتصادية، فكثير من الوظائف والفرص تشترط اتمام الخدمة العسكرية لمن يتقدم لها.
وفي مجتمع بات يقدس الخصخصة ويُصفّي مؤسسات القطاع العام تحت حكم اليمين والليبراليين، ما زال الجيش الإسرائيلي يسيطر على الصناعات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية وبرامجها وأولوياتها، وهذه الصناعات المرتبطة بقطاع التكنولوجيا المتقدمة، باتت قاطرة تقود الاقتصاد الإسرائيلي وتحقق لإسرائيل نفوذا ومكاسب سياسية ودبلوماسية متعاظمة مع وجود أكثر من 140 زبونا (دول وميليشيات) حول العالم. ويحظى الجيش في استطلاعات الراي العام بأكبر نسبة من الثقة، (أكثر من 90%)، بينما تتردى ثقة الجمهور بمؤسسات القضاء والشرطة والكنيست والحكومة إلى ما دون 50%.
الانقلاب القضائي والبقرة التي لم تعد مقدسة:
بعد عقود من اعتباره "البقرة المقدسة" التي يحظر انتقادها والمساس بها، ساهمت عوامل وتطورات موضوعية في خدش صورة الجيش في نظر الجمهور الإسرائيلي والنخب السياسية على السواء، فالتحول في طريقة بناء الجيش واعتماد قاعدة "جيش صغير وذكي" بتقليص وحدات المشاة والمدرعات، والتركيز على التكنولوجيا وسلاح الجو، بدا أنه يخدم مصالح الصناعات العسكرية أكثر مما يخدم المتطلبات القتالية الحقيقية لإسرائيل وحروبها، كما أن صناعات التكنولوجيا المتقدمة باتت تستقطب الكفاءات والعقول الشابة ما أدى إلى نشوء نخب جديدة على حساب النخب الأمنية والعسكرية، ولا شك أن الحروب المتواصلة التي لا تنقطع أبدا، وخاصة الحروب في مواجهة مدنيين وتشكيلات مقاومة غير نظامية، والتي حولت أقساما من هذا الجيش المتطور إلى قوات درك تلاحق الفتية الفلسطينيين في القرى والمخيمات وأزقة المدن، ساهمت هي الأخرى في المساس بهيبة الجيش والحط من مكانته الاعتبارية.
برزت أولى المواجهات الجدية بين الجيش والحكومة خلال فترة التغييرات القضائية، حين احتجت القيادات العسكرية على المساس بمكانة الجهاز القضائي، لأن غياب القضاء المستقل والقوي هو الذي يمكن أن يعرّض الضباط الإسرائيليون لملاحقات قضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية، وأمام أجهزة القضاء الوطني المختص بملاحقة مجرمي الحرب في عدة دول أوروبية. كما أن طبيعة الانقلاب القضائي المرافق لصعود اليمين الشعبوي والفاشي، كان موجها بشكل مباشر وعلني ضد ما يسمى نفوذ النخب، القضائية والعسكرية والأكاديمية، وخاصة نفوذ الشرائح العليا الأشكنازية، وبلغت أزمة العلاقة بين الحكومة والجيش ذروتها مع عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، حيث سعى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للتنصل من أي مسؤولية تجاه ما يوصف بأكبر إخفاق في تاريخ إسرائيل، وإلقاء المسؤولية على القيادات العسكرية والأمنية، بينما رأى كثير من القادة النظاميين وضباط الاحتياط أن المسؤولية الرئيسية تقع على عاتق الحكومة التي انشغلت بأجندات فئوية واضعفت الجيش والمجتمع، وراهنت على فرضية أن "حماس" مردوعة ولا تفكر بعمليات ضد إسرائيل.
تواصلت أزمة العلاقات بين المستويين السياسي والعسكري على امتداد شهور الحرب، وتراجعت ثقة الجمهور في الطرفين وفي كل مؤسسات الدولة، وباتت كل قضايا الحرب تثير خلافات بين الحكومة والجيش، بدءا من قرار الجيش تشكيل لجنة تحقيق داخلية، مرورا بقرار قيادة الجيش إجراء سلسلة من التعيينات والترقيات الدورية، ثم الخلافات على السياسة تجاه الفلسطينيين في الضفة، والعلاقة بالسلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، وصولا للأهم وهي نقاط التفاهم التي بلورتها قيادة الأركان مع قادة الأجهزة الأمنية بشأن عدد من القضايا الخلافية مع الحكومة وأبرزها سؤال اليوم التالي للحرب، وعملية رفح، والتصعيد في الشمال، ومستقبل قطاع غزة، وموازنة الجيش والأمن. بالإضافة إلى الإشكالات العارضة مثل قانون التجنيد، والتحذيرات من انهيار السلطة وانفجار الوضع في الضفة وتحولها إلى جبهة جديدة مشتعلة.
المشكلة الأخيرة التي انفجرت بشأن ممر المساعدات الإنسانية بين الحكومة والجيش ذات بعدين مهمين: الأول أن ثمة أزمة ثقة جدية وكبيرة في العلاقات بين الطرفين تصل إلى حد تكذيب أحدهما للآخر على الملأ، والثاني وجود خشية لدى الجيش من صدور مذكرات اعتقال لقادته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وخاصة جريمة تجويع السكان، لا سيما بعد إدراج الجيش ضمن قوائم العار من قبل الأمم المتحدة، في حال مواصلة إغلاق المعابر في وجه المساعدات.
خلاصة:
• مشكلة ممر المساعدات الإنسانية، هي غيض من فيض الخلافات الداخلية الإسرائيلية، بين الحكومة والمعارضة، وبين الجيش والحكومة، ومن الواضح أن هذه الخلافات بدأت تأخذ منحى تصاعديا خطيرا بعد انسحاب الوزيرين بيني غانتس وغادي آيزنكوت من مجلس الحرب، ثم قرار نتنياهو حل هذا المجلس الذي كان يوفر قدرا من الحماية السياسية لمؤسسة الجيش وقادته.
• الآن ومع زيادة الوزن النسبي للقوى المتطرفة في الحكومة، وإصرار نتنياهو على مواصلة الحرب، وتكرار خطابات النصر المطلق والحاسم من دون الإجابة على الأسئلة الشائكة والصعبة، في ظل مزيد من التوحّل والخسائر اليومية، كل ذلك سيدفع إلى مزيد من المشكلات بين الحكومة وقيادة الجيش.
• في المواجهة الأخيرة كما في سلسلة من المواجهات والخلافات اختار نتنياهو الانحياز إلى سلامة ائتلافه الحكومي وعلاقته مع بن غفير وسموتريتش، على سلامة المؤسسة العسكرية وحماية ضباط الجيش من تهم ارتكاب جرائم ضد الانسانية.