لا يبدو ما يقوم به سموتريتش أمراً جديداً حين يسعى بكل جهده من أجل تقويض السلطة الفلسطينية والدفع باتجاه انهيارها، ولكن ما يبدو مستغرباً حقاً هو صمت العالم ومواصلة حصاره المالي للسلطة، وعدم دفع أي مبالغ مالية جدية لها تستطيع أن تجعلها تقف على قدميها في وجه محاولات «العصر» الإسرائيلية لها. سموتريتش يقوم بما يؤمن به، وبما نذر نفسه له، حين يرى أن وجود كيانية فلسطينية هو نقيض تام لازدهار المشروع الصهيوني ولوقف توسعه الاستعماري الإحلالي، وهذا وفق ما يرى منطقي، ولا يمكن لعاقل يعرف منطق عقل اليمين الإسرائيلي غير المنطقي إلا أن يتوقع ذلك، ولكن الذي لا يمكن فهمه هو موقف المجتمع الدولي الذي يكاد يصفق لدولة الاحتلال وهي تواصل ضغطها على السلطة الفلسطينية، ودفعها من أجل أن تقع من أعلى جرف.
لقد أقيمت السلطة على التعاقد بين أطراف ثلاثة: الفلسطينيون وإسرائيل والمجتمع الدولي، وكانت الطرف الأخير تمكين السلطة من الوقوف على قدميها من أجل أن تكون نموذجاً للكيانية التي تؤمن بالسلام وتسعى له.
ومنذ اللحظة الأولى لوجود هذه الكيانية تفاكر القائمون على مؤسسة «بريتون وودز» من أجل خلق آليات لمساعدة هذه السلطة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه المواطنين، من خلال ما اصطلح على تسميته آنذاك «الاستثمار في السلام». وحمل كتيب من ستة أجزاء - يضع خططاً لبناء السلطة - هذا الاسم، وضم في جنباته مشاريع لكل شيء في الضفة الغربية وقطاع غزة. وحقيقة فقد قدم المجتمع الدولي الكثير من المبالغ المالية التي تم ضخ أغلبها في البنية التحتية التي لم تدخر إسرائيل جهداً في تدميرها أو تخريبها عند كل احتكاك مع الفلسطينيين، لأن كل خطوة يتقدم فيها الفلسطينيون تجاه إقامة دولتهم وتجسيدها بشكل مادي تشعر إسرائيل بالخطر المحدق على استمرارها، في تناقض يقع في جوهر العقل الصهيوني الذي لا يؤمن بالسلام مع الفلسطينيين حتى لو حلفوا بأغلظ الأيمان. وفي اللحظة التي كانت السلطة تبني المطار والميناء والمشاريع الكبرى، خاصة المدن الجديدة، كانت الجرافات الإسرائيلية تهدم أجزاءً أخرى من البلاد حتى هدمت البلاد.
وربما وجب التذكير بأن الفلسطينيين لم يقتلوا رئيس وزرائهم لأنه وقّع اتفاق سلام مع الإسرائيليين، بل إن من فعل ذلك هم الإسرائيليون الذين قاموا باغتيال إسحق رابين لأنه وقع اتفاق سلام مع الفلسطينيين، ناهيك عن التحريض والتظاهرات المناهضة للسلام التي كانت تجتاح تل أبيب وغيرها في غضب متطرف على توقيع اتفاق السلام. وفيما كان ثمة حراك كبير مناهض لاتفاق السلام بين الفلسطينيين، فإن ياسر عرفات لم يواجه بتهديد حقيقي على حياته. صحيح أنه لا يمكن مقارنة رابين ولا أي مسؤول إسرائيلي بياسر عرفات، ولكن ما أقوله: إن المجتمع الفلسطيني رغم أن عملية السلام انتقصت من حقوقه التاريخية مثلاً، إلا أنه لم يصل لمرحلة العنف من أجل تصفية أي جهد لتطورها. في بعض الحالات كان يتم توجيه هذا الجهد ضد الاحتلال من أجل المساس بالعلاقة الهادئة بين إسرائيل والسلطة وهذا موضوع آخر، لكن ما أقوله: إن الفلسطينيين لم يستخدموا عنفهم الداخلي من أجل إعادة توجيه العلاقة مع الاحتلال. وفي سابقة نادرة في التاريخ تم اغتيال رئيس وزراء الاحتلال رابين لأنه وقّع اتفاق سلام.
ما أقترحه هنا، أن فكرة إجهاض السلطة، وقتل فكرة نموها، موجودة عميقاً في وعي اليمين الصهيوني، كما في المركب الجيني لليسار الصهيوني الذي لم يكن يريد للسلطة أن تتحول إلى دولة بقدر ما يريد لها أن تكون الإسفنجة التي تمتص تطلعات الفلسطينيين. ذات مرة قال شارون: أُعطيهم ما أشاء ويسمّونها ما يشاؤون، في إشارة للفلسطينيين ولأقصى وأبعد ما يستطيع أن يوافق عليه خلال مفاوضات السلام معهم.
أيضاً كرجل ولد وعاش تحت الاحتلال، ويدفع فاتورة وجود إسرائيل كلاجئ، يمكن لي أن أتخيل العقل الصهيوني ومدى إجرامه ومدى مناهضته للتطلعات الفلسطينية، ومدى ما يمكن أن يذهب إليه، وفقط ربما الفلسطينيون وحدهم يستطيعون أن يتخيلوا ذلك، ولكن ما لا أفهمه ولا أستطيع أن أتقبله هو صمت المجتمع الدولي أمام ذلك، وعدم تحركه من أجل إنقاذ السلطة من الإفلاس وعدم مقدرتها على مواصلة الطريق. فقط ربما ضمن الفهم العام لسياق علاقة الدول الأوروبية بنشوء دولة الاحتلال ومساهمتها، أي الدول الأوروبية، بظهور المشكلة الفلسطينية ودفعها بقوة تجاه تحقيق النكبة ومشاركتها بجريمة تصفية أحلامنا وسرقة بلادنا يمكن فهم هذا الدور. من المعيب أن دولاً أمدت العصابات الصهيونية بالسلاح من أجل إخراجنا من أرضنا ما زالت تريد أن تقرن اعترافها بحقوقنا باعتراف دولة الاحتلال بها. فقط ضمن هذا النسق يمكن فهم لماذا لا تتحرك الدول الأوروبية لإنقاذ السلطة، إذ في أحسن الحالات يتم توجيه الأموال في قنوات إنسانية وهذا مهم، ولكن الأهم هو أن تقدر السلطة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها ضمن برامجها المختلفة. واضح أن العالم لا يريد ذلك وإذا أراد فإنه لا يرى أن من واجبه تحقيق هذه الإرادة، لأنها لم تعد مهمة بالنسبة له.
وعند الحديث عن السياق العربي يصبح الوضع أكثر غرابة. فالعرب بدولهم المختلفة تحسهم جزءاً من الأزمة الفلسطينية سواء مع دولة الاحتلال أو الصراع الفلسطيني الداخلي. كأن سكان يثرب يعرفون دروب مكة أكثر من أهلها. لا يمكن فهم ما يجري حين تجد السلطة الفلسطينية نفسها غير قادرة على مواصلة التزامها المالي ويقف الكل يتفرج كأن الأمر لا يعني أحداً. في النهاية، فإن أحداً لن يسمح بسقوط السلطة؛ لأن أحداً لا يستطيع تحمل البدائل التي لا يعرفونها، ولكن ليس من حق أحد أن يفرض على الفلسطينيين المعاناة في كل شيء.