هل فلسطين هم أكثر شعوب الأرض قاطبة من يجيد اللغة العبرية قراءة وكتابة ومحادثة، ليس فقط أولئك الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية أو يتعلم أبناؤهم في مدارس وجامعات إسرائيل، وينتشرون في حياة اليهود بكل تفاصيلها، بل وأهل الضفة والقطاع والقدس، الذين تعلموا العبرية بحكم الأمر الواقع، بعضهم تعلمها في غرف التحقيق التي مر عليها معظم الفلسطينيين منذ الأيام الأولى التي تلت حرب حزيران 67، ومنهم من تعلمها كعامل زراعي أو صناعي أو معماري أو صحي، ومنهم من قرر تعلمها وفق مقولة.. إذا رغبت في أن تأمن شرور الخصم تعلم لغته".
قليلون لا يجيدون العبرية، هم معظم من جاؤوا على أجنحة أوسلو، إذ لا لزوم لإتقاء الشرور كما كانوا يظنون، في زمن السلام ووصف رابين بصديقي الراحل.
إجادة اللغة العبرية فرضت على أجيال من الفلسطينيين أن يتابعوا ما تكتبه الصحافة العبرية وما تبثه الإذاعات وقنوات التلفزيون من أخبار وحوارات، حتى أنهم يعرفون أسماء السياسيين الإسرائيليين أكثر مما يعرفون وزراءهم الفلسطينيين، ويعرفون الأحزاب وسياسييها ورموزها وبرامجها ونسب حضورها في الكنيست والحكومة، أمّا الذين لا يجيدون العبرية وهم معظم الجيش الذي عاد محمولاً على أجنحة أوسلو وتفاهماتها ووعودها فمنهم القليل من تعلمها لمعرفة ما يحيط به، فإسرائيل تطل عليه أينما يمم وجهه، ومن لا يصادف إسرائيليين في قريته ومدينته فلا مفر منهم، فهم موجودون بكامل أسلحتهم، على بوابات المدن والقرى والأحياء، ولا يكفون عن زياراتهم الثقيلة ولو ليوم واحد من أيام السنة.
الفلسطيني تعلم أو علّم نفسه العبرية ليقاوم، وليس ليذعن ويستسلم ويتعايش، وليمرر حياته اليومية، بأقل قدر من الأذى والخسارة وهذا ذكاء لا ينكر، فمن دون هذه اللغة فلا لغة ثالثة يجيدها كي يتفاهم مع من يعمل معه في المزرعة أو المستشفى وغيرها من المرافق التي تكتظ بالعاملين الفلسطينيين.
إسرائيل التي تحتل كل فلسطين وتحارب كل شعبها، فيها أعداد أقل ممن يتحدثون العربية، وحتى حين يتحدثونها عبر الإذاعات والشاشات فإنها تبدو ركيكة مشوهة، تجد صعوبة في فهم من يتحدثها، ذلك لأن لا لزوم لها إلا في مجالات معينة كالاستخبارات وأجهزة المتابعة والرقابة وبعض الباحثين والأكاديميين وبعض الذين جاؤوا من بلدان عربية، وما زال المسنون منهم يحتفظون بلغة الوطن الأول كالعراقيين والمصريين والمغاربة.
يعرف الإسرائيليون كل شيء عن الفلسطينيين، فلقد حفظوهم عن ظهر قلب، من خلال احتلالات الأعوام 48 و67 و2023، يعرفون عديد الفلسطينيين من لحظة الميلاد إلى لحظة الوفاة، يعرفون كم بيضة تضع دجاجاتهم، وكم شاقلا يدخل جيوبهم ويخرج منها، ويعرفون كم مصرفا ومسجدا وكنيسة ومدرسة وجامعة في مدنهم وقراهم، حتى أنهم قبل هذه الحرب، كانوا يعرفون كم سعرة حرارية تحتاجها ملايين البشر في غزة للبقاء على قيد الحياة، ويعرفون كم طبيباً وممرضاً يعملون في مستشفياتهم، ويقلقون كلما زاد العدد عن الحد، يعرفون ذلك ويوظفونه في القنوات الأمنية الضيقة، حتى أن محمود درويش شاعر فلسطين الأكبر قال ذات مرة "إن الإسرائيليين تعرفوا على أشعاري ليس استمتاعاً بها أو لولع بالمعرفة وإنما بدوافع أمنية، فقصائدي بالنسبة لهم كانت عملاً أمنياً تجدر رقابته والتدقيق حتى في حروفه" حتى أن إسحق شامير طالب بإبعاد درويش عن الضفة جراء بيت شعر لم يرق له.
المفارقة التي تنتجها معرفة إسرائيل بكل شيء عن الفلسطينيين أنهم وهم يعرفون يصرون على أن لا يعترفوا، يعرفون أن الفلسطينيين منذ 48 زاد عددهم عشرين ضعفاً ولكنهم لا يعترفون بهم كشعب، ويعرفون أن المقولة التي بني عليها الحلم الصهيوني بإبادة الظاهرة الفلسطينية "الكبار يموتون والصغار ينسون" بدت بعد 75 سنة من حروب الإبادة والإلغاء والتصفية هي الأكذوبة الأقوى والأعمق التي يعرفها الإسرائيليون ولا يعترفون بها.
في أيامنا هذه حيث يغرق الإسرائيليون في رمال غزة يعرفون أن العُزَّل من ال "إف 16"، وال "إف 35" والمفاعل النووي والقنابل الغبية والذكية يحاصرونهم في كل مكان من العالم هم يعرفون ذلك ولكنهم أيضاً لا يعترفون، وهذه الظاهرة معروفة الجذور والحيثيات سببها أنهم وضعوا أنفسهم في الجانب الخطأ من التاريخ، وهذا هو حال من يحارب ظاهرة خرجت من إطارها المحلي الضيق لتنتشر في العالم كله، وهيهات ل "إف 35" ولمفاعل ديمونا والتحالف مع أمريكا أن يفعلا شيئا حيال هذه الظاهرة.
مصيبتهم أنهم يعرفون كل شيء ولا يعترفون.
.....
الفلسطيني تعلم أو علّم نفسه العبرية ليقاوم، وليس ليذعن ويستسلم ويتعايش، وليمرر حياته اليومية، بأقل قدر من الأذى والخسارة وهذا ذكاء لا ينكر، فمن دون هذه اللغة فلا لغة ثالثة يجيدها كي يتفاهم مع من يعمل معه في المزرعة أو المستشفى وغيرها.