غير الله وحده، لا أحد يدري ماذا يحدث في قطاع غزة من حرب إسرائيلية متبوعة بمراحل تستهدف فيها كل الفلسطينيين والبنى التحتية والخدمية، ولا أفق معلوماً أو واضحاً بشأن نهايات الحرب ومستقبل غزة بعد أن تضع الحرب أوزارها.
آلاف الأطنان من القنابل الذكية والغبية التي ألقيت على غزة وأسلحة متطورة جرى استخدامها في هذا المربع الجغرافي الضيق، ولم تتمكن إسرائيل حتى هذه اللحظة من تحقيق أهدافها سوى إمطار القطاع بالقنابل كتعويض عن الفشل في إدارة الحرب.
قبل أيام نقل عن مصادر إسرائيلية قولها إن الاحتلال قاب قوسين أو أدنى من إنهاء عدوانه العسكري على محافظة رفح جنوبي القطاع، وهناك مساعٍ لتسويق انتصار على حركة "حماس"، مع إجراءات نقل أغلب العدة والعتاد العسكري من غزة إلى جبهة شمال إسرائيل.
إسرائيل التي فقدت الكثير من جنودها في معارك غزة، تجد صعوبة بالغة في تأمين قواتها بعد تخوفات من استدعاء جنود احتياط للخدمة العسكرية، وامتناع الكثير من العسكريين عن المشاركة في الحرب، وكذلك اتساع رقعة الخلاف بين المستويين السياسي والعسكري بشأن عدم نضوج أفق سياسي لحرب غزة.
كذلك تجد إسرائيل نفسها في مشكلة مع مسألة تأمين احتياجاتها العسكرية من الولايات المتحدة الأميركية، وهي بحاجة ماسة إلى كل أنواع الأسلحة كنوع من التحضير الاستباقي لأي حرب شاملة مع حزب الله اللبناني على الجبهة الشمالية.
كل ذلك يدفع تل أبيب للحديث صراحةً عن قرب انتهاء العدوان على رفح، مع طرح الإعلان عن المرحلة الثالثة أو ما يسمى بالخطة "ج" التي تهدف إلى سحب ألوية عسكرية من القطاع وإعادة التموضع الجزئي في محورَي نيتساريم وسط غزة و"فيلادلفيا" أقصى جنوب القطاع.
بالنسبة للعقلية السياسية والعسكرية الإسرائيلية فإن المرحلة الثالثة لا تعني نهاية الحرب، وإنما استكمالها بوتيرة مختلفة من قبيل مواصلة القصف الجوي والمدفعي وإجراء عمليات موضعية محددة، واستهداف قيادات الفصائل الفلسطينية.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يريد إنهاء الحرب على غزة بصيغة المغلوب، ولذلك هو يناور بكل الطرق والوسائل لتجريد "حماس" من قوتها ومنعها من ممارسة أي حكم في غزة، وفي المقابل إيجاد سلطة بديلة تقدم ولاء الطاعة لإسرائيل.
قبل فترة تحدث نتنياهو عن إمكانية قبوله صفقة جزئية تتصل بمبادلة الأسرى والمعتقلين من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني بدون التوقف الكامل عن الحرب، لكن هذه الصفقة مستحيلة في ضوء تمسك "حماس" بشروطها المتعلقة بصفقة شاملة يتوقف فيها العدوان بشكل مستدام، مع انسحاب إسرائيلي كامل عن القطاع وعودة النازحين إلى منازلهم في الشمال والجنوب.
في حقيقة الأمر لا أحد يدري متى تتوقف إسرائيل عن الحرب، ولا توجد هناك أي خارطة طريق بخصوص المستقبل السياسي لغزة، ناهيك عن خلاف في الداخل الإسرائيلي يتسع يوماً بعد يوم حول عناوين كثيرة في مقدمتها بلورة صفقة مع غزة بما يتضمن البحث في مستقبل الوجود الإسرائيلي هناك، وطرق إزالة التهديدات على شمال إسرائيل.
لن تنسحب إسرائيل من غزة بدون قبض ثمن يمكّنها من تلبية احتياجاتها الأمنية أولاً، وثانياً عودة معتقليها لدى حركة "حماس"، ولذلك فإنها ستسعى إلى نقل حضورها العسكري في جبهة الشمال المتوترة كثيراً في هذه الأيام، وستحافظ على وجودها العسكري في أهم المناطق بغزة كنوع من ورقة الضغط على "حماس" وصولاً لما يسمى "الصفقة العادلة" للطرفين.
إسرائيل الآن مشتتة بين جبهتي الشمال والجنوب، وفي الوسط منهما احتمالات توسع الصراع في الضفة الغربية، لكن أكثر ما بدأ يقلقها هو حرب مباشرة وخاطفة مع حزب الله تضعها في موقف صعب، خصوصاً مع تآكل نظرية الردع ووصول العديد من الصواريخ اللبنانية والُمسيّرات التصويرية إلى مواقع إسرائيلية حسّاسة.
واهم كل من يعتقد أن لدى القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل قرارات واضحة بشأن المرحلة الثالثة، بدليل أن المراحل حُرقت في غزة ولم يتحقق هناك أي مكسب باستثناء توسيع الرقعة التدميرية في القطاع، وقد تضطر إسرائيل لمواصلة العدوان بـ"الريموت كنترول"، مع تنامي دعوات تأمين الإمدادات اللوجستية والعسكرية لجبهة الشمال.
من غير المستبعد أن تعلن تل أبيب إنهاء الحرب على رفح وسحب أغلب جنودها من القطاع، بهدف تخفيف حدة التوتر مع حزب الله كإجراء "أوتوماتيكي" لتخفيف التوتر مع غزة، ذلك أن إسرائيل التي تواصل توعّد لبنان بتدميره وإعادته للعصر الحجري، خائفة جداً على مستقبلها وأمنها، وهي لا تريد حرباً برصاص إذا لم يقتلها "يدوِشها".