رغم أن للأحزاب الدينية حضوراً في الخارطة السياسية الإسرائيلية منذ قيام الدولة، إلا أن هذه الأحزاب كانت عادة ما تكتفي بما تحصل عليه من ميزانيات خاصة تعزز نفوذها وسط جمهورها «الحريدي»، وبذلك كانت تعتبر ضمانة للحزب الحاكم، خاصة خلال العقود الماضية، منذ أن اعتلى اليمين بقيادة الليكود الذي تشكل كتكتل حول «حيروت» التاريخي، وذلك قبل نحو خمسة عقود، وكان هذا حال كل من حزبي «شاس» الذي رافق اليمين في الحكم منذ أن تشكل عام 1984، بزعامة عوفاديا يوسيف وقيادة آرييه درعي، وحال «يهودوت هتوراه» الذي ظهر بعد ذلك في العام 1992، وهكذا فقد رافق كلا الحزبين بنيامين نتنياهو خلال توليه قيادة الليكود بشكل متواصل _تقريبا_ منذ ما بعد حكومة اليسار التي كانت ليست أكثر من «فاصل ونعود» نقصد حكومة أسحق رابين التي تشكلت ما بين عامي 1992_1996.
وربما يعود السبب في أن الأحزاب الدينية لا تتدخل كثيرا، في الملفات السياسية، الخارجية منها على وجه الخصوص، الى كونها أحزاباً دينية متشددة، تشبه الى حد ما الأحزاب السلفية في عالمنا العربي، وهم يشكلون ما يقارب 15% من عدد سكان اسرائيل، ويمثلهم في الكنيست الحالي 18 عضو كنيست، أي أن تمثيلهم يساوي تماما نسبة جمهورهم من عدد السكان، وذلك يعني بأن الجمهور الحريدي بمعظمه قد صوت لهذين الحزبين، وبذلك فإن الجمهور الحريدي يتمتع بوجود مطابق تماما لحجمه في الشارع الإسرائيلي، وهذا أمر لا يتمتع به العرب من مواطني دولة إسرائيل، على سبيل المثال، الذين يزيدون على 20% من عدد سكان الدولة، بما يعني بأن تمثيلهم في الكنيست يجب أن يصل الى 24 عضو كنيست، لكنهم مع ذلك لم يحصلوا ولا في أي انتخابات سابقة، بما في ذلك الجبهة التي تضم عرباً ويهوداً، على أكثر من 15 عضو كنيست.
كما أن مجموع عدد نواب كل من شاس ويهودوت هتوراه في الكنيست الـ 25 الحالي أكثر من عدد نواب حزبي القوة اليهودية والصهيونية الدينية اللذين دخلا انتخابات الكنيست الـ 25 موحدين وحصلا على 14 مقعداً فقط، ورغم أن عدد مقاعد حزبي إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش لا يتجاوز 11،5% من نواب الكنيست، ولا يتعدى كونه 20% من نواب الائتلاف الحاكم، المكون من 32 نائباً من الليكود، و18 نائباً دينياً، و14 نائباً يمينياً متطرفاً، إلا أن نفوذ اليمين المتطرف في الحكومة، أكبر بكثير من نفوذ حزبي الحريديم، بل يكاد يكون أكثر تأثيرا من نفوذ كتلة الليكود نفسها، وهذا يوضح أن نتنياهو المتشبث بالحكم، خضع على مدار أكثر من عام ونصف مضت من عمر حكومته الحالية لتأثير كل من ابن غفير وسموتريتش اللذين يبديان توافقاً شبه تام بجانب التطرف في كل الملفات السياسية، خاصة العلاقة مع الجانب الفلسطيني، حيث يبدو بأن نتنياهو ليس فقط ضعيفاً بسبب الملاحقة القضائية، ولكن لأنه تلميذ مخلص لجابوتنسكي، بات يفضل أن يرثه يميني أكثر تطرفا، وهو كان قد رأى صورة هذا الوريث قبل سنوات في افغيدور ليبرمان، ثم في نفتالي بينت، ثم يراه اليوم في بن غفير وسموتريتش.
يجب أن لا ننسى للحظة بأن مشروع نتنياهو الأهم في كل حياته السياسية كان قطع الطريق على قيام الدولة الفلسطينية، وهو قاد على مدار ثلاثة عقود القوة المناهضة للحل السياسي، وكافح كل الوقت ضد اتفاق أوسلو، وفي آخر أيامه السياسية، بعد أن عجز قبل سنوات عن اعلان ضم الضفة الفلسطينية، حتى في ظل دونالد ترامب، فإنه مع بن غفير وسموتريتش، يرى اليوم، خاصة مع حرب الإبادة التي يقودها في غزة، وحرب الإطاحة بالسلطة الفلسطينية التي ينفذها في الضفة الغربية، بأن هذه هي النهاية أو الخاتمة «الطبيعية» لبرنامجه السياسي، وقد كان رد فعله على مقترح إعادة السلطة لإدارة قطاع غزة، حتى حين تقترحه واشنطن، خير دليل على ما نقول.
وبعد أن دفع ثلاثي التطرف السياسي المكون من نتنياهو وبن غفير وسموتريتش إسرائيل في أتون سياسي لم تشهد له مثيلا، لا يقتصر لا على الفشل الأمني الذي وقع يوم 7 اكتوبر، ولا على الفشل العسكري الناجم عن عدم تحقيق أهداف حرب الإبادة الجماعية طوال تسعة اشهر، لا هدف التهجير ولا تلك المتعلقة بتحرير المحتجزين بالقوة، أي دون ثمن، ولا تلك المتعلقة بسحق حماس كقوة عسكرية أو كنظام حكم في قطاع غزة، بل تعداه الى العزلة السياسية الدولية الناجمة عن قيادة نتنياهو لحرب إبادة جماعية، وما يتخللها من ارتكاب جرائم حرب مؤكدة، يدل على رد الفعل الدولي حجم المظاهرات والتنديد العالمي بإسرائيل، وعدد جلسات مجلس الأمن والجمعية العامة، بل وتقديم إسرائيل لمحكمة العدل الدولية من قبل جنوب إفريقيا وعدد متزايد من دول العالم، بتهمة ارتكاب حرب الإبادة الجماعية، والمحكمة الجنائية الدولية التي تقدم لها المدعي العام الدولي بطلب اصدار مذكرات اعتقال بحق كل من نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
بعد أن دفع هذا الجنون السياسي إسرائيل الى منعطف تاريخي، لم يهتم الحريديم، ولا حتى أنهم أظهروا أي موقف تجاه الجدل المرتبط بتكتيك نتنياهو وقيادته للحرب، رغم أن هذا الجدل مستمر منذ تسعة أشهر بين نتنياهو وبايدن، وبين الثالوث الفاشي، وبيني غانتس وغالانت، وبين المستوى السياسي والمستوى العسكري، أو بين الحكومة والجيش، هكذا تجد نفسها إسرائيل اليوم «دولة عالقة» بين حكومة متطرفة، غير منسجمة، فقط ترتكز لأغلبية حققتها قبل نحو عامين في الانتخابات، وترفض أن تعيد التفويض للشعب، رغم أن استطلاعات الرأي تشير الى صورة مختلفة كثيرا عن تلك التي كانت في شهر تشرين الثاني 2022، ومن يتابع مواقف قادة سياسيين وعسكريين سابقين، يتقدمهم كل من اهود أولمرت وايهود باراك رئيسَي الحكومتين السابقين، كذلك قادة أمنيون سابقون، يدرك بأن إسرائيل باتت عالقة بثوب نتنياهو السياسي المهترئ.
والحقيقة أنه ليس فقط أن إسرائيل ظهرت كدولة فاشية في ظل قيادة نتنياهو المرتكزة على تحالفاته، والتي ظهرت في أكثر تجلياتها في حرب الإبادة على غزة المترافقة مع حرب الإطاحة بالسلطة وتبديد الهوية الفلسطينية في الضفة أيضا، بل ظهرت قبل ذلك كدولة تتآكل في داخلها مؤسسات الدولة المدنية الديمقراطية، خاصة وأن الحكومة الحالية بدأت عهدها بشن حرب على القضاء، لإخراج كل من نتنياهو وآريه درعي من قفص الاتهام، وعلى مدار أقل من عام بقليل، أي منذ تشرين الثاني 2022 حتى تشرين الأول 2023، انقسمت إسرائيل داخليا على خلفية ما سماه الائتلاف الحاكم بخطة إصلاح القضاء، ولا أحد كان يعلم الى أين ستصل الأمور، لولا أن وقع «طوفان الأقصى» الذي وضع حدا لذلك الانقسام الداخلي الإسرائيلي.
لكن الآن ومع انحسار أو بدء العد التنازلي للحرب على غزة، بهذا الشكل أو ذاك، فإن اسرائيل تجد نفسها عالقة بين حكومة لها حسابات ضيقة تتعارض مع مصالح الدولة، وقد قادتها الى حرب خاسرة، عسكرياً وسياسياً، وما زالت تقودها على طريق المغامرة الحربية، الى حرب محتملة مع حزب الله، وبين المحكمة، ليس الجنائية الدولية في لاهاي ولا محكمة العدل الدولية وحسب، ولكن المحكمة العليا الإسرائيلية والتي قضت بعدم تجنيد اليهود الحريديم في الجيش، وذلك بعد جلسة الكنيست الصاخبة حيث صوت الكنيست قبل نحو أسبوعين بأغلبية 63 مقابل 57، على تمديد قانون إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية.
وقد أظهر الكنيست جدية فائقة عند التصويت حيث لم يغب عن الجلسة أي عضو، كذلك كان لافتاً أن يصوت نائب من نواب الائتلاف ضد القانون، وقد أثار قرار المحكمة العليا عاصفة من ردود الفعل داخل إسرائيل، فقد هاجم «يهودوت هتوراه» بالطبع المحكمة، حيث قال مائير بوروش الوزير الحريدي من يهودوت هتوراه: لا توجد قوة في العالم يمكنها إجبار شخص تتوق روحه لدراسة التوراة على الامتناع عن ذلك، أما رد الفعل الأخطر فكان ما أفادت به وسائل إعلام إسرائيلية من أن حزبي شاس ويهودوت هتوراه يعتزمان الانسحاب من حكومة نتنياهو.
هكذا تظهر عواقب تقديم نتنياهو التنازلات على حساب الدولة لشركائه في الائتلاف، يسترضي ابن غفير وسموتريتش بحرب إبادة في غزة وإطاحة بالسلطة الضفة، وإغلاق مستقبل إسرائيل كدولة تتعايش مع محيطها، ويمس بمنطق المساواة بين مواطني إسرائيل إرضاءً للحريديم، خاصة وأن إسرائيل تخوض حرباً يُجمع فيها كل قادتها العسكريين على حاجتها لتجنيد كل مواطن فيها، خاصة وأن طريق الحرب ما زال يبدو طويلاً.