فور فوز تحالف اليسار الفرنسي، بالكتلة الأكبر في الجمعية الوطنية أطلق السياسي الإسرائيلي اليميني المتشدّد أفيغدور ليبرمان تصريحاً، دعا خلاله يهود فرنسا، لمغادرة البلاد إلى إسرائيل.
ليبرمان اعتبر فوز كتلة اليسار، مؤشّراً على تصاعد اللاساميّة، ما يشكّل خطراً على يهود البلاد.
ليبرمان ضمنياً يتهم قطاعاً واسعاً هم منتخبو اليسار بأنهم كارهون لليهود، ولاساميّون ولكنه يخطئ تقديم النصيحة.
إذا كان اليهود في فرنسا، وهم متجذّرون في المجتمع الفرنسي، مهدّدين بخطر التعرّض لحياتهم ومصالحهم، فهل إسرائيل أكثر أمناً لهم من فرنسا الدولة القوية الراسخة التي تتمتّع بقدر واسع من الحرية والديمقراطية؟
ماذا إذا تكرّر الأمر الذي وقع في فرنسا في دول أوروبية أخرى، فهل ستكون إسرائيل هي وجهتهم بحثاً عن الأمن والاستقرار؟
لا يرى ليبرمان، ولا يريد أن يعترف بأن إسرائيل هي الدولة الأكثر اضطراباً، وفقداناً للأمن والاستقرار في هذا العالم.
منذ قيامها العام 1948، والصراع لا يتوقّف والثمن الذي يدفعه اليهود في دولة الاحتلال، لا يتوقّف بل إن دولتهم تواجه تصاعداً في التهديدات والمخاطر التي تستهدفها ومواطنيها من اليهود.
صحيح أن دولة الاحتلال تصنّف على أنّها دولة متقدّمة اقتصادياً، وعسكرياً، وتكنولوجياً، وتتمتّع بمستوى دخل فردي، ومعيشة مرتفع، ولكن أين كلّ هذا مما تعاني منه وتنتظره، خلال الحرب الجارية، والتي يخوضها جزء من الشعب الفلسطيني، وليس كلّه بكلّ قواه وإمكانياته؟
يتجاهل ليبرمان وغيره أنّه في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، غادر إسرائيل أكثر من نصف مليون يهودي إسرائيلي، وفق بعض التسريبات القليلة التي تتكتّم عليها الجهات الرسمية والإعلامية الإسرائيلية.
الحرب لا تزال مستمرّة، بقرار وإرادة من قبل الحكومة العنصرية التي تتوهّم القدرة على تحقيق الأحلام الكبرى الأولى للصهيونية والتي ترى أنّ أرض إسرائيل تمتدّ من النيل إلى الفرات.
بعض المتهوّرين من الساسة، والحاخامات لا يزال يتطلع ويدعو لتحقيق هذا الهدف وبعضهم يطالب ليس فقط باحتلال غزّة، ومتابعة الاستيطان فيها، وإنّما يمتدّ الطلب لاحتلال صحراء سيناء المصرية.
يُبدع الإسرائيليون، سياسيين وجنرالات وحاخامات في استفزاز واستدعاء عداوات، نائمة حتى الآن، كما هم جميعاً يبدعون في شراء كراهية العالم، لهذه الدولة، التي تمارس أبشع الجرائم بحق الإنسانية، وتمعن في قتل البشر، والقيم والقوانين.
يكرّر وزير الحرب يوآف غالانت أنّ جيشه يواجه في غزة وحوشاً بشريّة، لكنه لا يدرك بعد كل ما تنقله وسائل الإعلام أنّ هناك في غزّة بشراً يحبّون الحياة، بشراً أسوياء لديهم قيمهم، وأنّ جيش الاحتلال مدمن قتل البشر، وأن اعتبار الأمم المتحدة، هذا الجيش بأنّه قاتل للأطفال يضمّه إلى قائمة العار، بأنّ ذلك قليل على ما تستحقه الدولة العبرية.
الصورة مقلوبة إذاً، فلقد أصبحت الأمور أكثر وضوحاً. فالجيش الذي يدّعي أنّه الأكثر في العالم التزاماً بالقيم، هو الجيش الأكثر تدميراً للقيم الإنسانية بينما يظهر الفلسطيني مواطناً أو مقاوماً أنّه الأكثر التزاماً وقناعة بالقيم الإنسانية وقيم العدالة.
يدعو ليبرمان يهود فرنسا للمغادرة إلى إسرائيل، ويتجاهل آلاف اليهود الذين يخرجون إلى شوارع مدن العالم، يندّدون بالمجازر ويتضامنون مع الفلسطينيين، ويطالبون بإنزال العقوبات بحق من يرتكبون المجازر بحق الفلسطينيين.
يتجاهل، أيضاً، أنّ هناك تزايداً في أعداد اليهود، الذين تخلّوا عن قناعاتهم بضرورة وجود دولة لليهود في فلسطين، ويتجاهل مئات الآلاف من المستوطنين، المهجّرين في "غلاف غزّة"، والمستوطنات الحدودية لجنوب لبنان الذين يكابدون الإهمال وفقد الأمن والاستقرار، وربما وصل الكثير منهم إلى قناعة بمغادرة البلاد بلا رجعة.
إذا كان هذا بعض ما يمكن الحديث عنه في سياق تطوّرات الواقع الجارية دون الإسهاب في الحديث عن تداعيات الحرب على الاقتصاد والمجتمع، وانهيار القناعة بقدرة الجيش على الردع، أو حتى على حماية أمن الناس، وضمان مستقبل هادئ ومستقرّ لهم، فماذا عن تداعيات الحرب على الفلسطينيين والمحيط العربي والإسلامي؟
لعلّ صراخ نتنياهو، وشكواه من تباطؤ الدعم العسكري الأميركي للجيش، يؤكد أنّ هذه الدولة لو تركت دون دعم الولايات المتحدة لكانت انهارت.
والآن لا ينتبه السّاسة وجنرالات الحرب الإسرائيليون، أو ربما هم متنبّهون إلى أنّ ارتكابهم هذه المجازر الوحشية ضد الفلسطينيين، من شأنه أن يخلق جيوشاً، أكثر بأساً وأكثر صلابة وأكثر خبرة، في الكفاح من أجل حقوقهم الوطنية، وانتقاماً لشهدائهم ومعانياتهم.
قد تخلّف حرب الإبادة والاقتلاع والتجويع على أهل غزّة، والحرب المستعرة على أهل الضفة، مئتي ألف شهيد ومصاب، وربما أكثر، فقط في هذه الجولة من الصراع، ولكن سيبقى في غزّة مليونا إنسان لن يغادروها.
عائلات ثكلى، آلاف الأيتام، وآلاف الإخوة، أو الأخوات، أو الآباء أو الزوجات، التي انتقلت إلى بارئها، ماذا سيكون مصير هؤلاء.
عشرات الآلاف، فقدوا كلّ وأبسط ما يملكون وفقدوا أحباءهم، حتى أصبحت ظهورهم إلى الحائط، فلم يعد لديهم ما يخسرونه.
بعد تجربة التهجير، والنزوح العام 1948، نشأت أجيال جرّبت أقسى ظروف الحياة، ولكنهم صمّموا ونجحوا في قهر كلّ صعوبات الحياة.
اليوم تتكرّر المعاناة، وكأنّ الناس في غزّة يخوضون تجربة تدريبية لأكثر من مرة، حيث يعانون الخذلان، والذلّ، ويعانون الجوع والعطش والمرض والتشرُّد، يعانون البرد والحرّ، والخوف، ليقل لنا خبراء حقوق الإنسان وعلماء الاجتماع، أيّ بشر، وأيّ مقاتلين سيكونون هنا.