يقولون، «أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً» تلك مقولة تصلح للعشاق والأصدقاء لكنها لا تصلح عندما يأتي الطبيب بعد أن يموت المريض، أي الحالتين ينطبق على الفلسطينيين؟ فهم ليسوا مجموعة عاشقين مترفين بل هم مرضى بالاحتلال والانقسام والفقر وبالوطن، والآن تواصل الفصائل تثاؤبها المستمر بعد أن تسببت للشعب بكل تلك الأهوال وهي تتنازع منذ عقود طويلة وصلت ذروتها قبل سبعة عشر عاماً حين اقتتلت بالسلاح على سلطة تحت الاحتلال ... هكذا كان الأمر بلا تجميل وإن حاولت القوى المتحاربة أن تبرر صراعها بمقولات وطنية دينية لكنه في الحقيقة كان صراعاً بدائياً صغيراً وأكثر محطات التاريخ الفلسطيني عاراً.
بات الفلسطينيون يسخرون من حوار الفصائل، ولم يعودوا يأخذون الأمر على محمل الجد. فتجربة الخداع الطويلة أصبح يحفظها الفلسطيني عن ظهر قلب بمناوراتها وانقلاباتها، مرة تطلب» فتح» في لحظة ضعف مصالحة فتتصلب «حماس»، ومرة «حماس» في ذلك الوضع فتناور الأولى. وهكذا كان العبث هو الحقيقة الوحيدة في جولات أطلق عليها بعض الفلسطينيين «سياحة المصالحة».
لا تعرف الفصائل أنها تأخرت أكثر مما يجب ولم يعد لحوارها لون أو طعم أو رائحة، لم تعرف أن المريض مات ولم يعد بإمكانها التدخل. فقد انتهت منذ زمن حلول الأرض في هذا الحوار المستحيل وأحيل الأمر للسماء لكنها تركت للعبث أن يصل إلى آخره ليعاقب تلك الفصائل على ما ارتكبته بحق شعبها وقضيتها.
الغزيون لا يأبهون بالمصالحة، فقد انتهى الأمر وغزة تم تدميرها وأصبح سكانها نازحين وقتل من قتل. فقد تعرضت لإبادة شرسة وتجاوز الحوار مدة صلاحيته وفسد ولم يبقَ سوى إسدال الستار على هذا الفيلم الطويل أو ممكن ترك أطرافه تتسلى دون إزعاج المواطن، تعلق أهل غزة الذين فرضت عليهم مغامرة «حماس» بطرد السلطة حصاراً استمر سبعة عشر عاماً بالحوارات، فقد كانت المصالحة أملهم الوحيد بحياة كريمة، كانوا يتابعون رحلاتها وتفاصيلها وهمسات أطرافها حتى وإن كانت كاذبة لكن الغريق كان يتعلق بقشة الأمل لكن الآن ماذا تفيدهم بعد أن وقعت الواقعة؟
تأخرت الفصائل، فالمصالحة لم تعد تقرر بشأن غزة التي أصبحت محتلة ولم يعد أمرها لا بيد حركة حماس ولا بيد «فتح»، فـ»حماس» لن تحكم غزة بعد الحرب ليس لأن الإسرائيلي سيظل يلاحقها ولا لأن شعب غزة لم يعد يريد حكمها بل لأن نهاية هذه الحرب كما الحروب السابقة باتت مستحيلة، وأن ما هو مطلوب لغزة للإعمار أكبر كثيراً من قدرة «حماس» وإمكانياتها وعلاقاتها، فالأمر يحتاج إلى إمكانيات دولية كبيرة ولا أحد بعد هذه الحرب مستعد للمساعدة بالإعمار إذا ما بقيت تحكم غزة. فلنكن واضحين إلا إذا أصرت «حماس» على حكم تلك الخرابة بين الأنقاض وعاندت الواقع هذا سيكون أكبر عقاب لها وقد يفعله الإسرائيلي.
أما حركة فتح، فلن تحكم غزة أيضاً. فالإسرائيلي يعترض منذ بداية الحرب على عودتها لهذه المنطقة وهو لم يقم بهذه الحرب حتى يسدي للفلسطينيين خدمة وحدة نظامهم السياسي بعد أن عمل على تفتيتهم طويلاً وكان حارساً وممولاً لانقسامهم، فالأمر يتعلق بالبعد السياسي ويزيد الإصرار الإسرائيلي الآن بعد الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية فقد رفع منسوب خطر حكم السلطة لغزة سياسياً.
هكذا تأخرت الفصائل وأصبح الأمر خارج سيطرتها، أما في الضفة الغربية، فالإسرائيلي لا يريد أكثر من سلطة محدودة تؤدي أدواراً بائسة. ومن يقرأ انتقادات حركة حماس وبياناتها التي ترفض دور السلطة وسياساتها وبرنامجها يدرك أنها لن تقبل بأن تكون جزءا من تلك السلطة حتى لو عرض عليها الشراكة، إذاً نحن أمام واقع، غزة فيه خارج سيطرة الفصائل وهي التي كانت تتوق للمصالحة، فعلى ماذا سيتحاورون وهل بقي شيء للحوار؟
هناك شيء في السياسة اسمه اللحظة التاريخية وتلك أفلتت منذ زمن بعيد، لذا بات الحوار بلا مضمون ولا قيمة ولا هدف، مجرد لقاءات فصائلية منفصلة عن الواقع. فبين الجولة الأولى للحوار والأخيرة جرت مياه كثيرة في النهر الفلسطيني وجرت أيضاً دماء كثيرة وجثث كثيرة أبرزها جثة الحوار الذي لن يصل إلى نتيجة كما كل جولاته البائسة.
حوار لفك الحصار عن غزة؟ لقد انتهت غزة وتحولت إلى كومة من الركام. حوار لإجراء انتخابات؟ من سيتمكن من إجرائها بعد سيطرة اسرائيل على غزة؟ حوار لتقاسم السلطة؟ لم يبقَ من السلطة في الضفة إلا ما تبقى من سمكة أرنست همنغواي ... حوار لتشكيل حكومة؟ فقد أصبحت تلك تحت سيطرة العالم والسداسية العربية التي تأخذ موقفا ضدياً من «حماس» باستثناء قطر ... حوار لإنقاذ الوطن؟ فقد دمر الوطن والقضية أمام عبثهم فما جدوى الحوار بعد أن تأخر سبعة عشر عاماً؟ إلا إذا كان يراد منه تقاسم اللجنة التنفيذية وهياكلها الهرمة ولكن تلك أحيلت للتقاعد ... ومثلها آن الأوان لفصائل أن تلتحق بها فلم يعد وسط حفلة الدم متسع للمزيد من ترف حواراتها.