في محاولة لاستباق الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن تداعيات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، اتخذ الكنيست قراراً، برفض إقامة دولة فلسطينية، ستكون من وجهة نظر المشرّعين الإسرائيليين، دولة إرهابية تشكّل تهديداً لوجود الدولة العبرية.
الطيف الإسرائيلي كلّه، متفق وداعم لقرار الكنيست الذي لم يعترض عليه سوى النوّاب العرب، ما يعني أنّ الصراع من وجهة نظر إسرائيلية هو صراع شامل لكلّ أرض فلسطين التاريخية، وأنّ كلّ حديث عن «رؤية الدولتين»، هو حديث ذرائعي، طالما أنّ أحد أطراف الصراع الأساسية وهو دولة الاحتلال لا ترى للفلسطينيين أرضاً أو حقوقاً على أيّ شبر من أرض فلسطين.
في ردّ فعله على الرأي الاستشاري لـ»العدل الدولية»، أكد بنيامين نتنياهو أنّ إسرائيل ليست دولة محتلّة لأرضها وقدسها، وتراث وتاريخ أجداد الشعب اليهودي على حدّ زعمه.
لا حاجة لتوظيف أيّ ردود فعل أخرى في بيان الوقائع، كأنّ نتحدّث عن ردود فعل بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير، اللذين وصفا المحكمة بأنّها معادية للساميّة، وطالبا كما آخرين بأن تبادر إسرائيل إلى بسط السيطرة على الضفة الغربية.
مثل هذا الاتهام لمسؤولين رسميين إسرائيليين لـ»العدل الدولية» هو تكرار لاتهامات سابقة للمحكمة الجنائية، وللأمين العام للأمم المتحدة بل للأمم المتحدة بكل أجهزتها ومؤسّساتها وقراراتها التي وصفت بأنها معادية لدولة الاحتلال، وتدعم ما يسمى الإرهاب الفلسطيني.
قرار «العدل الدولية»، الذي جاء بعد عامين من إحالة الطلب من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، «شرشح» الدولة العبرية، وفنّد كلّ ادعاءاتها وشمل معظم إن لم يكن كل الممارسات والقرارات الإسرائيلية، المخالفة للقوانين والقرارات الدولية، وأعلن عدم شرعية الاحتلال وإجراءاته في الضفة والقدس.
شكّل قرار المحكمة 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر آخر قانونياً سياسياً ودبلوماسياً، صادماً بالنسبة لدولة الاحتلال، وبما ينطوي عليه من بُعد أخلاقي قيمي، يشكّل صفعة لسياسات الدول، خصوصاً الغربية التي وفّرت لإسرائيل كلّ ما لزمها، لارتكاب كلّ هذه الجرائم التي أشار إليها الرأي الاستشاري للمحكمة.
المحكمة وصفت دولة الاحتلال بوضوح بأنّها دولة تمييز عنصري، وتعلن حق الفلسطينيين في تقرير المصير، وتطالبها بإنهاء احتلالها ووجودها غير الشرعي، وتفرض عليها تقديم تعويضات للفلسطينيين.
نعلم أن قرار المحكمة الشامل، لا يتمتّع بصفة الإلزام، وأنّه بحاجةٍ إلى آليات مكمّلة، عَبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم مجلس الأمن حيث ينتظره «فيتو» أميركي كالعادة.
وفي كلّ الأحوال فإنّ دولة الاحتلال رفضت وترفض، وستواصل رفض ومقاومة أيّ قرارٍ يصدر عن أيّ مؤسسة دولية، حتى لو اجتمع عليه كل المجتمع الدولي، وبالتالي فإنّ الأمر يعود إلى مدى توفّر القوة القادرة على إلزامها بالقرارات الدولية.
عند البحث عن مصدر هذه القوة المطلوبة، فإنّ الأمر يعود إلى الشعب الفلسطيني أساساً، إذ من غير المنتظر في المدى الزمني القريب والمتوسّط أن يبادر المجتمع الدولي، أو حتى المجموعة العربية أو الإسلامية، لتحمّل المسؤولية عن توفير قوة الإلزام القادرة على تغيير السياسة الإسرائيلية.
غياب القوة القادرة على إرغام دولة الاحتلال، للمثول أمام القرارات الدولية، لا يعني أنّ قرار «العدل الدولية»، غير ذي أهمية.
القرار يشكّل إضافة أخرى ذات أبعاد حقوقية مهمة، يعزّز حماية الحقوق الفلسطينية، ويقدم خلفية قانونية، تستند إليها «الجنائية الدولية»، والمؤسسات الحقوقية الأخرى التابعة للأمم المتحدة، وحتى المؤسسات الوطنية الحقوقية في كثير من دول العالم بما في ذلك الصديقة والحليفة لدولة الاحتلال.
المحكمة تضيّق الخناق الدولي الدبلوماسي والسياسي، والإعلامي على دولة الاحتلال، ويشكّل اختباراً لمصداقية الدول الغربية التي تدّعي حرصها على القانون الدولي، وقيم حقوق الإنسان، ويضع عديد الدول الغربية أمام سؤال ازدواجية المعايير.
قرار «العدل الدولية»، يوفّر للفلسطينيين ومناصريهم ذخيرة إضافية، ذات أبعاد أخلاقية، لإزاحة الرواية الإسرائيلية وتشديد الحصار على الشركات والمؤسسات المتعاملة مع دولة الاحتلال، وتوسيع دائرة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية والشركات المتعاملة معها.
باختصار فإنّ الرأي الذي قدمته «العدل الدولية»، يشكّل فتحاً جديداً وانتصاراً للحقوق الفلسطينية، يستدعي عملاً فلسطينياً دؤوباً، ومخطّطاً، ووطنياً، في سياق مقاومة الاحتلال، بكلّ الوسائل الممكنة.
لقد أبطل القرار الاستشاري للمحكمة عملياً وقانونياً، التصنيف الذي تعتمده الولايات المتحدة، ودول غربية أخرى، بحق المقاومة الفلسطينية وتعتبرها جماعات إرهابية.
غزّة تحت الاحتلال والحصار البرّي والبحري والجوّي بحسب رأي المحكمة، ما يؤكّد حق الشعب المحتلة أرضه، في مقاومة الاحتلال بما في ذلك من خلال الكفاح المسلّح، وهو ما فعله الفلسطينيون في 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر العام المنصرم.
ثمة محطّة قريبة قادمة، حيث يجتمع الفلسطينيون في الصين للمرّة الثانية خلال أشهر قليلة، ما يرتّب عليهم تجاوز العقبات والحسابات والتدخّلات التي منعت إنهاء الانقسام كلّ هذا الوقت.
كان من الطبيعي كردّ فعل على قرار الكنيست الأول في شباط هذا العام، وفي الأيام الأخيرة، أن يصدر قرار عن منظمة التحرير الفلسطينية، بسحب اعترافها بإسرائيل، ووقف الالتزام بما تبقّى من تداعيات أوسلو، التي أطاحت بها إسرائيل قبل سنوات طويلة.
بقي على جدول أعمال المحاكم الدولية، ملفّ الحرب الإسرائيلية البشعة على القطاع، وإعادة تنشيط الدعوى التي قدّمتها دولة جنوب إفريقيا، وانضم إليها الكثير من الدول، وبعد أن رفضت إسرائيل الاستجابة لطلبات المحكمة خلال الجلستين السابقتين لها.
وبصراحة، يشكّل قرار المحكمة فرصة لإعادة تشكيل الرأي العام العالمي، الذي أخذ يتفاعل بقوّة مع الصراع، وظهرت آثار ذلك في الانتخابات البريطانية والفرنسية حتى الآن.
لا حجّة بعد ذلك، لأيّ فصيل أو طرف فلسطيني، للتهرُّب من مسؤولياته إزاء استحقاق استعادة الوحدة الوطنية.
إذا كان الفلسطينيون الطرف الآخر لمعادلة الصراع، وفي ضوء وحدة الطرف الإسرائيلي حول روايته وأهدافه وسياساته، فإنّ الأَولى بالفلسطينيين أن يتمّموا وحدتهم في أقرب وقت، وبأيّ ثمن.