بنجاح أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشهيد إسماعيل هنية، وقبله بساعات تمكنها من الوصول للقيادي العسكري الكبير في حزب الله فؤاد شكر تمكنت إسرائيل من تسجيل هدفين في عواصم محور الممانعة، وقبلها بعشرة أيام كانت قد قامت بعملة استعراضية بعيدة بقصف ميناء الحديدة كانت تل أبيب تعيد رفع نبرتها من جديد ما دعا بنيامين نتنياهو لتسجيل شريط مدته لا تتجاوز خمس ثوانٍ يتبجح فيه قائلاً: «أنا بنيامين نتنياهو» على نمط زعماء المافيا.
ولمن لا يعرف إسماعيل هنية فهو القيادي المعروف ابن مخيم الشاطئ للاجئين الذي وصل إلى سلم قيادة الحركة بعد اغتيال العديد من قادتها المؤسسين وخصوصاً الأب الروحي الشيخ ياسين ورجلها القوي الشيخ عبد العزيز الرنتيسي، وهو من أكثر رجال الحركة أدباً واحتراماً حتى ضد خصومه لم يكن يتجاوز الرجل الخجول في خطاباته لغته شديدة الأدب ضد الإخوة الألداء في ذروة الانقسام بعكس ما اعتادت عليه حركته.
ويدرك كل من يعرفه أنه يكاد يكون الرجل الوحيد الذي تمكن من عقد قران السياسة مع الأخلاق وهذا نادر في عالم السياسة.
كان إسماعيل هنية استثناء في الحياة السياسية الفلسطينية وقد حظي بمحبة الجميع، حتى أن أشد معارضي حركة حماس لا ينتقدون ما فعل كما ينتقدون السياسيين بل كانوا يأخذون على الشهيد ما لم يفعل وهذا استثناء: لماذا لم يمنع أصدقاءه العسكر من القيام بطرد السلطة من قطاع غزة ليدخل الفلسطينيون هذا النفق الطويل؟. لكن هذا لم يمنع أن الرجل يحظى باحترام الأصدقاء والخصوم لأنه تفرد بميزات إنسانية من التواضع والأدب والاحترام.
قبل العمليات الثلاث «بيروت طهران الحديدة» كانت إسرائيل تبدو كمن يتلقى الصفعات من كل الجهات بعد الطائرة اليمنية التي ضربت تل أبيب، وما قالت عن صاروخ إسرائيلي من حزب الله على مجدل شمس والتهديدات المحيطة وتلك تسهم بالتراكم في نزع صورة إسرائيل كدولة مهيمنة إقليمياً وقوية تردع خصومها ما تعتبره كلمة السر في البقاء، وهو ما أبرزه النقاش العام في الفضاء السياسي الإسرائيلي واتهام المعارضة «ليبرمان - لابيد» لحكومة نتنياهو بإضعاف الدولة التي يجب أن تكون قوية كي تبقى.
وكان لإسرائيل أن ترد بهجمة معاكسة فاختارت أهدافها بعناية من ناحية النوع: قائدين كبيرين في حزب الله وحماس، وكذلك الجغرافيا «بيروت وطهران» لتبدو الضربة بعد ميناء الحديدة أنها نزعت التفوق الذي عاشه محور المقاومة قبل أن ينقلب الأمر فيعيش المحور مناخات أشبه بمناخات إسرائيل الأسبوع الماضي.
هكذا تبدو الأمور أو بدت بصورتها الأكثر وضوحاً في أيامها الأخيرة، نحن أمام طرفين لا يقبل كل منهما أن يسجل في شباكه أي هدف ولا يقبل أن ينكسر، فإسرائيل من ناحيتها يبدو الانكسار المعنوي هزيمة لفكرة المشروع التي قامت على تفوق القوة واستمرت بتفوق القوة، وهو ما سمته قوة الردع التي تردع خصومها من ضربها واستمرار استنزافها وهي قلب فكرة بقاء اليهودي في إسرائيل أي أنها لا تبالغ حين تطلق على حربها الدائرة منذ تسعة أشهر الحرب الوجودية.
بالمقابل إيران من ناحيتها تعتبر أن حلفاءها من يخوضون حرباً تنال من إسرائيل وهي تبدو أنها تقود محوراً متكاملاً موزعاً على عدة دول في العراق وسورية ولبنان واليمن وغزة، وتمكنت بفضل ذلك من البروز كطرف يملك من النفوذ والقوة ما يمكنها من الظهور كقوة إقليمية.
فهي غير مستعدة للتنازل عن هذا الإنجاز بأن تتلقى ضربات ولا ترد وهذا كان وراء تغيير المعادلة في نيسان الماضي بضرب إسرائيل، فقد تلقت إيران سابقاً ما يكفي من الضربات في سورية وطهران لكنها كانت تتبع ما كانت تسميه سياسة «الصبر الإستراتيجي»، أما في المناخات الجديدة فقد تغير ذلك لذا فهي مضطرة للرد على اغتيال قائد حماس في عاصمتها ليس فقط لإرسال الرسالة لحلفائها بل من أجل المكانة التي توفرت بعد الحرب وهي ليست مستعدة للتنازل عنها.
هنا بيت قصيد اللحظة التي تقبع بها المنطقة، تصاعد في وتيرة الضربات والضربات المضادة من قبل طرفين الأول دولة تقف خلفها الولايات المتحدة ليست مستعدة لامتصاص ضربة لما تسببه من خسارة استراتيجية تمس فكرة المشروع، والأخرى تقف خلف حلفائها وليست مستعدة لامتصاص ضربة ستؤدي إلى تراجع الصورة التي تجسدت بأنها تقود حلفاً قوياً تمكن من توجيه ضربات مهينة لإسرائيل.
هكذا بدا الامر عالقاً فالمنطقة تقف على أطراف أصابعها والتهديدات متبادلة والتخوفات متبادلة، ولا أحد مستعداً لتلقي ضربة وتجاهلها أو تجاوزها أو امتصاصها للأسباب السابقة. إذاً نبدو كأننا بتنا أمام تصعيد حتمي وأمام معادلة لا يمكن كسرها من قبل الأطراف الوسيطة، فالميدان يملك من عوامل الدفع أكبر من عوامل الكبح وقد صنعت المناخات معادلاتها والتي لن تنتهي إلا بحرب أكبر أو باتفاق كبير، أما دون ذلك تبدو الأمور أنها تنفلت رغماً عن الجميع.