الكوفية:سياسة الاغتيالات جزء مهم من العقيدة الإسرائيلية في مواجهة النضال الفلسطيني، منذ اندلاع الثورة الفلسطينية المسلّحة العام 1965 وحتى الآن، ذهبت قيادات، وذهبت أحزاب وحكومات، وبقيت هذه السياسة قائمة ومعتمدة من الجميع.
استمرار هذه السياسة ليس مرده إلى غياب سياسة الردع من قبل الفصائل الفلسطينية ولا لأن من مارسوا هذه السياسة يغفلون عن أنها لا تشكّل رادعاً، يمنع الفلسطينيين من مواصلة كفاحهم.
إنّها على ما يبدو مفصل مهم في سياسة الإبادة الجماعية التي انتهجتها العصابات الصهيونية قبل العام 1948، واستنسختها القيادات والأحزاب اللاحقة في ظروف متباينة، وتجلّت بأوضح صورها في الحرب الإجرامية الأخيرة الجارية على قطاع غزة والضفة الغربية.
يتباهى المسؤولون في دولة الاحتلال عن ارتكاب عمليات الاغتيالات، وتبني عليها أمجادا، باعتبارها إنجازات استراتيجية، غير أنّ دروس التاريخ تفيد بأن كل عملية اغتيال تستنبت بديلاً، إن لم يكن أكثر تمسُّكاً بالأهداف التحرُّرية فإنه يمضي على الدرب ذاته.
ثمة من قالوا، إن مسح حركة حماس من الوجود أمر أقرب إلى المستحيل، فالمسألة تتعلّق بفكرة، ولا يمكن لأحد أن ينجح في وأد الأفكار.
في سجلّ الاغتيالات للقادة الكبار، والمؤسّسين للحركات الفلسطينية، عشرات جنّدت الدولة العبرية كلّ إمكانياتها الاستخبارية لقتلهم في بيروت، وتونس، وبعض دول أوروبا الغربية، وفي الضفة والقدس، ولكنها لم تنجح في اغتيال فكرة الكفاح الفلسطيني، ولم تضعف الدوافع من أجل استعادة الحقوق الوطنية الفلسطينية.
ربما أراد بنيامين نتنياهو أن يرسم صورةً لنصر افتقده خلال عشرة أشهر، وبات بعيد المنال، وربما يتعدّى الأمر ذلك، إلى توفير أسباب لمتابعة الحرب الدموية والتدميرية والهروب من الضغوط الداخلية، فلم يجد أفضل من استهداف أحد أبرز القيادات العسكرية لـ"حزب الله" اللبناني، فؤاد شكر، وإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ"حماس".
يفعل نتنياهو ذلك، وهو يضمن أنّ مثل هذه الاغتيالات لن تمرّ دون ردود شديدة، تتجاوز ضوابط الاشتباك الذي تعود عليه الجيش مع أطراف "محور المقاومة"، ما يستدعي ردّاً يكسر تلك القواعد.
مرّ أسبوع، لم تتوقّف خلاله التصريحات من قبل إيران و"حزب الله"، بأنّ الرد قادم، وشديد ومباشر، ومؤلم، كما لم تتوقّف خلال هذا الأسبوع، الاستعدادات الإسرائيلية الأميركية مع حلفاء آخرين، لردع الردود المحتملة وحماية دولة الاحتلال.
الأسبوع الذي مضى منذ عمليتي الاغتيال، كان جزءا من الردّ، وجزءا مؤلما ومكلفا، من حيث إنه وضع الإسرائيليين أمام حالة إرباك وانتظار وهلوسة.
وخلال الأسبوع، لم تتوقف حركة القوات الأميركية في المنطقة، بهدف التموضع لتعزيز قدرتها على الردع والتهديد وحشد الحلفاء الإقليميين للمشاركة على غرار ما حدث في نيسان.
مصانع توقّفت، ومستوطنات تمّ إخلاؤها، وقوّات جرى نقلها إلى الشمال، وتوقّفت الإجازات وحركة الطيران الدولي والداخلي وبقي السكّان بالقرب من الملاجئ، وتمّت تهيئة المستشفيات وهبطت قيمة الشيكل.. إلخ، وكلّ ذلك يُحسب ضمن الثمن المدفوع.
الدول العربية المرشّحة لأن تمرّ عَبر أجوائها الصواريخ أو المُسيّرات في طريقها نحو دولة الاحتلال، أعلنت أنّها لن تسمح لأيّ طرف من انتهاك سيادتها الجوّية. لكن هذا الإعلان موجّه ضدّ "محور المقاومة"، لأنّ هذا "المحور" هو المعني بالردّ.
وكما أنّ الأسبوع المنصرم شهد كل هذه التحرُّكات والاستعدادات، والتهديدات، وهذه الحرب النفسية فإنّه، أيضاً، كان فرصة للحراك السياسي والدبلوماسي الذي أرادته وتستغلّه واشنطن.
السّباق بين الحلّ السياسي، والإجراءات الحربية، كالسّباق في صحراء لا يعرف المتسابقون فيها مشرق الشمس من مغربها.
واشنطن تواصل شراكتها مع حكومة نتنياهو، في ضخّ المزيد من الوقود لتأجيج النيران المشتعلة، وتوفير دوافع إضافية لتوسيع دائرة النار.
وفي الوقت ذاته، تحاول محاصرة النيران ولكن ليس على حساب دولة الاحتلال، وإنّما على حساب الآخرين، فتدعو لمحاصرة هذه النيران من خلال التوقُّف والامتناع عن الردّ، أو جعل الردّ محدوداً لا يؤدّي إلى توسيع الحرب العدوانية.
نجحت واشنطن في نيسان الماضي، حيث جاء الردّ الإيراني، على قصف قنصليتها في دمشق، محدوداً، ومحدوداً كان الردّ الإسرائيلي على الردّ الإيراني، وبالتالي لم تخرج الحرب عن مسارها.
الجهد الأميركي يأخذ مسارين متلازمين: الأول، حشد القوات والتحالفات الدولية والإقليمية، لتعزيز عملية الدفاع عن دولة الاحتلال واحتواء حجم وتأثيرات ردود الفعل.. والثاني، محاولة منع أو تحجيم الردّ من خلال الحديث عن إمكانية التوصّل إلى صفقة تؤدّي إلى التهدئة في القطاع.
منطقياً، يمكن قبول فكرة تحجيم الردّ من قبل "محور المقاومة" مقابل صفقة تؤدّي إلى وقف الحرب في غزّة، ولكن هل تضمن واشنطن تحقيق هذه المعادلة؟
السؤال عند نتنياهو، الذي يرفض طريقة التفكير الأميركية، ونجح في كل مرة، في تجاوز الاعتراضات والضغوط، والهروب إلى الأمام، وفي كل مرة يربح دعماً أميركياً سخيّاً، حيث يحصل على ما يريده من ذخائر وأسلحة وغطاء سياسي.
الإدارة الأميركية، التي تتطلّع إلى كسب الصوت اليهودي لصالح كامالا هاريس منحت نتنياهو تعهداً أراده وطالب به منذ وقت، بأنه سيكون بإمكانه متابعة الحرب بعد الإفراج عن أسراه ولكن من غير المنتظر أن ينجح بايدن وإدارته في الحصول على موافقة نتنياهو، الذي لا يزال يُصعّد في اشتراطاته.
والتساؤل هو: لماذا سيفعل نتنياهو ما يريده جو بايدن بينما هو مغادر البيت الأبيض، وطالما أنه ينجح دائماً في ابتزاز هذه الإدارة ويحصل على ما يريده؟
أطراف "محور المقاومة" تدرك أبعاد هذه اللعبة، وهي ترى أن نتنياهو يتلاعب بالإدارة الأميركية، فلماذا عليها أن تستجيب لهذه اللعبة، والحال أنّ مفتاح أبواب توسيع الحرب التدميرية أو محاصرتها أو حتى إغلاقها هي بيد نتنياهو، وعلى كل طرف أن يحدد دوره وموقفه وسلوكه استناداً إلى ذلك.