هناك أفكار ومبادرات عدة تهدف إلى تحريك المياه الراكدة في النظام السياسي الفلسطيني، منها ما هو إيجابي، ومنها ما يحاول إعادة إنتاج القديم، ومنها ما يشكل مراوحة في المكان نفسه.
فهناك مشاورات في الكواليس لعقد مجلس مركزي فلسطيني قبل نهاية العام الحالي، بعد معرفة مصير حرب الإبادة ونتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية تحضيرًا للمرحلة الجديدة، وبغرض انتخاب لجنة تنفيذية تضم أشخاصًا جددًا تحضيرًا للخليفة أو الخلفاء.
وهناك مبادرة قديمة جديدة طرحها حزب الشعب تنطلق من تشكيل مجلس تأسيسي يضم أعضاء المجلسين المركزي والتشريعي المنحل، تعمل من أجل إنجاز استقلال دولة فلسطين، وتدعو إلى إقرار دستور لدولة فلسطين.
وهناك مبادرة شعبية وقّع عليها أكثر من 1500 من شخصيات فلسطينية من داخل الوطن المحتل وخارجه، لعقد مؤتمر وطني؛ بهدف الضغط لتشكيل قيادة واحدة وإحياء وتفعيل منظمة التحرير وإعادة بناء مؤسساتها لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي. والجدير بالذكر أن المبادرين إلى عقد المؤتمر الوطني دعوا إلى تطبيق إعلان بكين الذي تضمن تشكيل حكومة وفاق وطني، وتفعيل الإطار القيادي المؤقت، وتشكيل مجلس وطني جديد عبر الانتخابات.
عقد المجلس المركزي
يُشكل عقد المجلس المركزي، سواء إذا دُعِيَ ممثلون عن الفصائل غير الممثلة في المنظمة أو لم يُدْعَوْا، نوعًا من ذر الرماد في العيون؛ لأن ذلك يُبقي القديم على قدمه، ويكرس الانقسام كون المجلس المركزي الحالي لا يضم فصائل أساسية مثل حماس والجهاد الإسلامي، فضلًا عن أنه مقاطع من فصائل أخرى مثل الجبهة الشعبية والمبادرة والصاعقة والجبهة الشعبية/ القيادة العامة، التي لن تلبي دعوة لحضور اجتماع وفق التشكيلة القديمة التي تسيطر عليها القيادة الرسمية.
كما يكرس المخالفة القانونية المتمثلة في منح صلاحيات المجلس الوطني كاملة للمجلس المركزي، وهذا يشكل انتهاكًا كبيرًا وخطيرًا للنظام الأساسي الذي وضع سلطات وصلاحيات كبيرة للمجلس الوطني، فلا يجوز وليس من المعقول أن يقوم بالتخلي عن صلاحياته أو تفويضها كلها للمجلس المركزي، خصوصًا أن التفويض شامل وكامل وغير مقيد بوقت ولا بمواضيع محددة، وهو يشبه من يقضي على نفسه بنفسه، هذا مع العلم أن المجلس الوطني يجب أن يشكل كل ثلاث سنوات، ويجب أن يعقد دورة اجتماعات كل عام.
مجلس تأسيسي ودستور دولة فلسطين
إنّ الدعوة إلى تشكيل مجلس تأسيسي مكون من أعضاء تم تعيينهم منذ زمن بعيد أو تم انتخابهم منذ 18 عامًا، يحرم العديد من الشخصيات الاعتبارية والكفاءات الوطنية، وخصوصًا أن الشباب والمرأة وأماكن اللجوء والشتات والقوائم الانتخابية والحراكات إما غير ممثلين أو تمثيلهم ضعيف؛ ما يوجب توسيع قاعدة التمثيل في الإطار القيادي المؤقت لتشمل عددًا مناسبًا منهم.
كما أن المطالبة بإقرار دستور دولة فلسطين مسألة يجب إعادة النظر بها؛ لأن إنهاء الاحتلال يجب أن يسبق وضع الدستور الذي يتضمن حقوقًا وواجبات للمواطن، ويجب أن تكون هناك سيادة للدولة حتى تضمن تلبيتها. فيكفي ما خلفته تجربة إقامة سلطة تحت الاحتلال، وتجربة بناء مؤسسات الدولة تحت الاحتلال كطريق موهوم لإنهاء الاحتلال؛ ما أدى في النتيجة إلى إقامة دولة تحت الاحتلال من دون سيادة ولا صلاحيات حتى حكم ذاتي وهذا ساعد على تعميق الاحتلال وتوفير غطاء فلسطيني لاستمراره.
إن الدعوة إلى تشكيل مجلس تأسيسي تجاوز لإعلان بكين، أو يمكن أن يضعف فرص تطبيقه، مع أنها ضعيفة أصلًا. ومن الأفضل الاستفادة من فرصة توقيع جميع الفصائل عليه، ولكنه وضع على الرف، حيث لم يشرع في تنفيذه؛ ما يتطلب تنظيم حملة سياسية وشعبية متصاعدة لضمان تطبيقه.
كما هو معروف فقد تضمن إعلان بكين تشكيل إطار قيادي مؤقت يضم الأمناء العامين للفصائل وهيئة رئاسة المجلس الوطني، وهو مُنِح ويملك صلاحيات قيادية خلال الفترة الانتقالية، وفق ما جاء في اتفاق القاهرة 2011، إلى حين تشكيل مجلس وطني جديد.
المثير للتساؤل هو لماذا طرحت أفكار متعارضة مع ما اتفق عليه في إعلان بكين؟ وهذا يدل على عدم الجدية، ويضعف مصداقية الموقعين عليه ممن يطرحون مبادرات مختلفة، ويقدم دليلًا جديدًا على عدم وجود نية لتطبيقه .
توسيع الإطار القيادي المؤقت
هناك حاجة ماسة لتوسيع تمثيل الإطار القيادي المؤقت وتفعيله، حتى يملك مصداقية وقدرة حقيقية على تمثيل أكبر، إلى حين التمكن من إجراء الانتخابات، وتمكين الشعب من التمثيل الحقيقي عبر اختيار ممثليه، مع إتاحة المجال لتعيين عدد محدود بالتوافق الوطني استنادًا إلى معايير محددة وطنية وموضوعية متفق عليها.
إن من متطلبات معالجة الوضع الفلسطيني تغيير شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها وموازنتها؛ لأن السلطة بعد حرب الإبادة ومخطط الضم والتهويد والتهجير يجب أن تكون مختلفة عن السلطة التي ولدت عندما كانت جزءًا من عملية سياسية والتزامات متبادلة، حتى لو كانت مجحفة جدًا بالفلسطينيين وحقوقهم، إضافة إلى العمل على توحيد مؤسسات السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة، مع مراعاة الظروف والخصائص والمستجدات والخبرات المستفادة.
لا بد أن تكون السلطة الجديدة، وليست "المتجددة"، أداة من أدوات التحرر الوطني، والمساهمة في تحقيق إنهاء الاحتلال، الهدف الوطني في هذه المرحلة. وفي هذا السياق، تكون الانتخابات جزءًا من المعركة لإزالة الاحتلال، وليس وسيلة لمنحه نوعًا من الشرعية والمصداقية. وتكون وظيفتها توفير الخدمات ومقومات الصمود، ومجاورة للمقاومة (ولا أقصد سلطة مقاومة)؛ لأنها إذا كانت كذلك وجمعت بين السلطة والمقاومة الشاملة بما فيها المسلحة، فستدمّر فورًا.
كما أن السعي لتجسيد الدولة من أهم المرتكزات التي يجب الاستناد إليها، وما يتطلب ذلك من الشروع في تجسيدها على الأرض والحصول على اعتراف المزيد من الدول بالدولة الفلسطينية، والحصول على الاعتراف الأممي من خلال تحويل الاعتراف من دولة مراقب إلى دولة كاملة العضوية، من دون وضع هذه المسألة على طاولة المفاوضات، فالحقوق لا يتفاوض عليها، بل تُفرض وتُنتزع.
لماذا لم تحقق الفصائل الوحدة؟
يتساءل الإنسان الفلسطيني وكل محب وداعم لفلسطين على امتداد العالم: لماذا لم تحقق الفصائل الوحدة على الرغم من حرب الإبادة ومخطط الضم والتهويد والتهجير الذي يستهدف الفلسطينيين جميعًا، فصائل وأفرادًا؟
الجواب معروف، وهو بسبب المصالح الفردية والفئوية وتغييب المصلحة الوطنية والخلافات البرامجية وفي الأولويات وتأثير دولة الاحتلال والأطراف الإقليمية والدولية في الفصائل والسلطة والقيادة. وتتنافس هذه الأطراف فيما بينها في التدخل بالشأن الفلسطيني لزيادة نفوذها وتأثيرها في المنطقة، من خلال التأثير في القضية الفلسطينية التي تؤثر في الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم.
وإذا لم يتوحد الفلسطينيون حاليًا في منظمة واحدة وسلطة واحدة وعلى أساس برنامج القواسم المشتركة فسيوجّهون ضربة قاسية لقضيتهم وشعبهم؛ وحدة على أساس برنامج الحد الأدنى والقواسم المشتركة، حيث يمكنهم التنافس في القضايا والبرامج الأخرى المختلف عليها، وهذا يجسد التعددية الفكرية والسياسية والحزبية التي شكلت - ويجب أن تشكل دائمًا - ضمانة لحيوية القضية الفلسطينية واستمرارها ومناعتها، وساعدت على بقائها حية، وستساعد على انتصارها مهما طال الزمن وغلت التضحيات.
تطبيق إعلان بكين هو المدخل
إن تطبيق إعلان بكين مدخل رئيسي لتجاوز المأزق الوطني الشامل الذي تعاني منه القيادة والمؤسسة والأحزاب والنخب، وعلى كل حريص على القضية الفلسطينية، ومدرك للتحديات والمخاطر التي تتهددها وللفرص المتاحة، أن ينخرط في العمل والحركة من أجل تطبيقه قبل فوات الأوان والندم حيثما لا ينفع الندم.