رغم جنونه إلا أن ما أعلنه الفاشي إيتمار بن غفير عن نيته إقامة كنيس يهودي داخل باحة المسجد الأقصى، لم يكن أول مرة تظهر فيها مثل هذه الفكرة الجهنمية، فقد روى قبل أيام الكاتب الصحافي الفلسطيني، المقيم في لندن عبد الباري عطوان قصةً منسوبة منه الى وزير العدل في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات، فريح أبو مدين، حيث كان شاهداً على ما قدمه وزير خارجية تركيا إسماعيل جيم وذلك عام 1998، من مقترح كان منبته أميركا على ما يبدو، وكان مضمونه أن يُمنح الراحل الفلسطيني الدولة الفلسطينية المستقلة التي يريدها تماماً، مقابل إقامة كنيس يهودي في المسجد الأقصى، حيث رد عليه الزعيم الراحل بحنكته وخبرته وذكائه، قائلاً إنه يمكنه أن يوافق على المقترح، شرط أن يجري استفتاء للشعب التركي، ليس الفلسطيني ولا العربي، بل الشعب التركي الذي كانت تحكمه العلمانية التركية في ذلك الوقت، يوافق بموجبه الشعب التركي المسلم، حينها فإن أبا عمار يوافق على ما هو مقدم له!
وأبو عمار، كما كل الوطنيين الفلسطينيين الذين ما زالوا يسيرون على طريقه، يدركون تماماً مكانة القدس لدى المسلمين، وليس لدى الفلسطينيين وحسب، ولذلك كان أبو عمار يهتف أمام الجماهير الفلسطينية قائلاً: ع القدس رايحين شهداء بالملايين، وفي قلب القدس بالطبع أولى القبلتين وثالث الحرمين، وتلك المكانة لا يتقدمها لدى أكثر من مليار مسلم في جميع أنحاء العالم سوى الحرم النبوي الشريف في مدينة رسول الله (ص) المدينة المنورة، والحرم المكي الشريف حيث الكعبة، ورغم أن الصراع الدائر بين الفلسطينيين وكان معهم كل العرب، وبين الصهاينة الإسرائيليين، ظل ضمن إطار الصراع القومي، بين حركة تحرر وقوة استعمارية، إلا أن إضفاء الطابع الديني، كما كان الحال في الحروب الصليبية مثلاً، لم يتم حتى الآن، أما اذا انزلق هذا الصراع الذي رغم كل شيء، ليصبح دينياً، حينها فإن الحرب ستشمل دولاً وشعوباً، لم تشهد مثلها الحربان العالميتان من قبل.
فحين كان يجري التلويح من قبل ورغم الأوقات الصعبة التي كان يمر بها أعداء وخصوم الاحتلال، منذ ما بعد العام 67، نقصد لحظات إحراق المسجد الأقصى، او الإعلان الاحتلالي بضم القدس، إلا ان القدس والمسجد الأقصى، ظلا عصيين على الاحتلال من جهة، ومن جهة ثانية النقطة الحرجة التي عندها وفيها يكمن المنعطف التاريخي الفاصل بين الحرب وبين السلام، وكل مَن تابع مفاوضات السلام منذ ما بعد إعلان المبادئ، وحتى العام 2014 يدرك بما لا يدع مجالاً للشك بأن مسألة القدس عموما كانت هي المعضلة، ولا شك بأن الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الذي تميزت ولايته خلال ثماني سنوات بالتركيز على ملف التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حاول في آخر أيام تواجده بالبيت الأبيض عقد اتفاق نهائي بين الراحل ياسر عرفات وإيهود باراك رئيس حكومة إسرائيل آنذاك، وبعد أن بقي الثلاثة معزولين مع وفودهم عن العالم في كامب ديفيد نحو أسبوعين، إلا أن عدم الاتفاق حول القدس، رغم مقترحات تفصيلية مرهقة طرحت، كان السبب في انهم فشلوا في التوصل للحل.
وكان اقتحام القدس من قبل عضو كنيست متطرف في ذلك الوقت، وهو أرئيل شارون، عام 2000 سبباً فيما سُمي بالانتفاضة الثانية، التي تسببت في مواجهة فلسطينية إسرائيلية استمرت 4 سنوات، وأغلقت آفاق الحل السياسي، وجاءت بشارون نفسه لموقع رئيس حكومة إسرائيل، وما زالت القدس وستبقى تحتل مكانة تحريضية لا حدود لها، وكل من يقترب من الوضع القائم حالياً وهو أصلاً حساس جداً، كما لو كان مربوطاً بخيط دقيق، أو يجلس على برميل بارود، يمكنه أن يُشعل حريقاً يطال الدنيا كلها، وهذا ما يفعله إيتمار بن غفير، والذي يبدو أنه وهو الذي يتحكم برئيس الحكومة الإسرائيلية الآن، بات يعتقد بأنه صار من حقه أن يرتقي درجة أخرى ليكون هو رئيس الحكومة الصريح، وطريقه إلى ذلك هو جنون التطرف، كما كانت الاقتحامات السابقة طريقه حين كان مجرد عضو كنيست، لأن يغدو اليوم وزيراً، بل الوزير الذي يتحكم بمقود الحكومة، ويقبض على عنق رئيسها ويسيّره تماماً كما يريد بالضد من كل العالم.
هذا الرجل يبدو أنه يعيش خارج العصر، يمكنه أن يقول ويفعل كل ما يخطر على باله، دون أي اعتبار للآخرين، وهو يظن بأن أكثر من مليار مسلم هم كأنظمتهم، ولا يخطر بباله للحظة، بأن التطرف الديني والتطرف السياسي الذي يسير على طريقه سيغذي التطرف المضاد.
لا يقبل بهذا أي أحد في الدنيا، ورغم أن هذا مهم لكنه لا يكفي، ويبدو أنه صار مؤكداً بأنه لا يكفي، فقد شجع عجز العالم، بسبب من تحكم أميركا في النظام العالمي وهي الشريك الفعلي والميداني للفاشية الإسرائيلية، عن منع ووقف حرب الإبادة الجماعية ومجازر الحرب التي يقيمها الفاشيون الذين يحكمون إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني خاصة في قطاع غزة، وذلك رغم قرارات محكمتَي العدل والجنائية الدولية ورغم قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة، شجع هذا نتنياهو وغالانت وهاليفي وبن غفير، ليس فقط على مواصلة إرهاب الدولة الاستعمارية العسكرية ضد المدنيين الواقعين تحت الاحتلال في الضفة والقدس، وحرب الإبادة في الضفة، بل على قطع كل الخطوط الحمراء، بما في ذلك أولى القبلتين وثالث الحرمين.
والحقيقة أن اكثر من شهرين بأيام فقط، تفصلنا عن احتمال أن نجد أنفسنا أمام جوقة حاكمة في كل من إسرائيل وأميركا، يمكن أن تجر العالم إلى حرب عالمية ثالثة.
اليوم أباد الفاشيون الإسرائيليون، أي خلال أقل من عام أكثر من خمسين ألف شخص في قطاع غزة، وألقوا على القطاع ما يعادل خمس أو ست قنابل من قوة قنبلتي هيروشيما ونغازاكي، وما زال العالم في أحسن أحواله عاجزاً عن إيقاف نتنياهو_غالانت_هاليفي، وراءهم بن غفير وسموتريتش عن ممارسة هذه الإبادة، وما ينقص هذه الفاشية الصريحة على الجانب الإسرائيلي هو مثيلتها على الجانب الأميركي، حتى يذهب جنون إرهاب الدولة الى آخر مدى، ويمكن أن يحدث هذا وبنسبة 50% بعد إجراء انتخابات الرئاسة الأميركية في الخامس من تشرين الثاني القادم.
ولو فاز دونالد ترامب ودخل سيداً للبيت الأبيض، وهو المجرّب وليس فقط بتصريحاته، بل بكونه كان رئيساً من قبل، ونقل سفارته على غير تقليد الرؤساء السابقين الى القدس، فإنه مع ابن غفير، سيمضيان نحو بناء الكنيس في الأقصى، أي إلى هدم المسجد وإقامة الهيكل، والى توسيع حدود إسرائيل بحيث تغدو من الفرات إلى النيل، أي أنهما سيعلنان الحرب على مليار عربي ومسلم، وإذا كان جو بايدن اليوم سعى بكل قوته إلى منع الحرب الإقليمية، وزج ببوارجه لجانب إسرائيل حتى تنفرد بإبادة غزة، فإن ترامب_ بن غفير سيعلنان الحرب الإقليمية فور تمكنهما من السلطة.