الكوفية:فيما تسعى واشنطن كل الوقت إلى تعطيل ساعة انفجار الصراع وتوسّعه مستخدمة آلاتها العسكرية المتنوّعة، وجهدها الدبلوماسي والسياسي للضغط على كل الأطراف ما عدا إسرائيل، لا بدّ أنّها ستتفاجأ باندلاع هذا الصراع سياسياً قبل أن ينفجر عسكرياً.
المدّعي العام للجنائية الدولية كريم خان، يستعجل قضاة الغرفة الابتدائية في المحكمة، لإصدار مذكّرات الاعتقال التي كان طلبها منذ أشهر قليلة.
يعترف خان باستخدام لغة المجهول «أنّهم» قاموا بتهديده بشكل علني وخفي بحلّ المحكمة أو الانسحاب من «اتفاقية روما»، بالإضافة إلى تهديد حياته شخصياً وعائلته لثنيه عن إصدار مذكّرة اعتقال بحق نتنياهو.
طبعاً ما كان لخان أن يفصح عن الأطراف التي قامت بتهديده ولا تتوقف عند الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين تمارسان الضغط والتهديد لكنهما ليستا عضوين في «اتفاقية روما»، ما يعني أنّ ثمّة دولاً غربية أخرى انضمت إلى الأطراف التي تمارس التهديد والضغط لحماية قادة دولة الاحتلال.
وكالعادة، جاء ردّ نتنياهو مستهتراً، ومستهزئاً، ومتّهماً المحكمة في لاهاي بأنّها متحيّزة سياسياً، ولا ترتكز على أي أساس قانوني، معتبراً أن مقاربتها عار أخلاقي ومعاداة للسامية.
وعلى مقلب آخر، تنشط وزارة الخارجية لدولة الاحتلال وطواقمها الدبلوماسية، لحثّ المشرّعين الأميركيين، على ممارسة الضغط على حكومة جنوب إفريقيا، لثنيها عن الاستمرار في ملفّ الدعوى المقدمة لمحكمة العدل الدولية، بشبهة ارتكاب جريمة إبادة جماعية، تعتقد دولة الاحتلال أنّ الانتخابات الأخيرة في جنوب إفريقيا، والتي نجم عنها حكومة ائتلافية تمنحها الفرصة لتغيير سياسة الحكومة السابقة، التي كان يديرها المؤتمر الوطني الإفريقي، غير أنّ الردّ جاء سريعاً من بريتوريا، بأنّ الحكومة مستمرة في الطريق ذاته، وأنّها لا تتعرض لأيّ ضغوط.
وفيما يشير إلى أنّ حكومة الاحتلال، التي توزع الاتهامات في كل اتجاه لأي مسؤول أممي، أو مؤسسة أممية، على أنّها معادية للسامية ومناصرة لـ«حماس»، تهدد الدولة العبرية السلطة الوطنية الفلسطينية إن هي قامت بملاحقتها سياسياً وقضائياً في المؤسسات الدولية أو خلال الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة.
على أنّ دولة الاحتلال التي كانت تطالب بإقامة حلف مع الدول «السنّية» العربية لمواجهة «حماس»، ستتفاجأ، بأنّ العرب لم يعودوا يطيقون الصبر على جرائمها، التي لا تتوقف، وتهديدها الأمن الإقليمي والدولي.
ربما يعتقد البعض أنّ بيان وزراء الخارجية العرب، الصادر عن اجتماعهم الدوري يوم 10/9 الجاري، ينطوي فقط على ممارسة ضغط على دولة الاحتلال، من أجل إرغامها على الانصياع للمحاولات الجارية لإنجاح صفقة التبادل.
بل ربما يعتقد البعض أنّ البيان الصادر عن اجتماع الخارجية العرب، قد تمّ تمريره بتنسيق من تحت الطاولة مع واشنطن التي ترغب بشدة في التوصل إلى صفقة تبادل، لكنها غير قادرة على ممارسة ضغط فعّال على نتنياهو، بسبب حاجتها للصوت اليهودي في الانتخابات.
كل هذا وارد، وأكثر من هذا، أيضاً، ولكن مضامين البيان تشير إلى أنّ العرب لم يعودوا يتحمّلون مزيداً من الصمت والتخاذل والمراهنة على واشنطن لمنع توسّع الحرب، وبعد أن تجاوزتهم ردود الفعل الشعبية على المستوى الدولي بما في ذلك وأساساً في الدولة الشريكة لدولة الاحتلال وحربها، خلال أكثر من 11 شهراً، ظلّت الرسمية العربية تطلق التصريحات، المندّدة والمطالبات بوقف الحرب الإجرامية، وظلّ الشارع العربي بلا حراك، بينما رائحة الدم الفلسطيني تزكم الأنوف.
بيان الخارجية العرب خرج عن المألوف، والروتين، واستخدم لغة ذات أبعاد عملية إجرائية، لا شكّ بأنّها ستشكل ضربة شديدة التأثير على دولة الاحتلال، وفي الوقت ذاته، تعكس خيبة الأمل من واشنطن وسياساتها.
بيان وزراء الخارجية العرب، الذي صدر عن اجتماعهم الدوري بحضور مسؤولين أمميين، ووزير خارجية تركيا، تحدث عن جملة من الخطوات الإجرائية:
أولاً، قرر الاجتماع البدء بخطوات لتجميد مشاركة الدولة العبرية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، خصوصاً وطالما أنّها لا تلتزم بقرارات الأمم المتحدة، ومواثيقها، وقيمها، بل إن مندوبها جلعاد أردان كان قد مزّق ميثاقها، وطالب بإنهاء وجودها.
ثانياً، يطالب البيان المحكمة الجنائية الدولية، بالإسراع في إصدار مذكّرات الاعتقال بحق مسؤولي دولة الاحتلال، التي طالب بها خان.
قد لا يملك العرب، القدرة على حماية خان، وقضاة المحكمة من الانتقام سواء من قبل دولة الاحتلال أو حلفائها، أو يمارسون ضغطاً مكافئاً للضغوط التي تتعرض لها المحكمة، ولكن ذلك يعكس موقفاً معادياً لنتنياهو وأركان حكومته المتطرفة.
ثالثاً، يقرر البيان رفض المشاريع البديلة للمشروع الوطني الفلسطيني، وتأكيد الوحدة الجغرافية والتمثيلية لدولة فلسطين، الإشارة هنا واضحة برفض التهجير، وخطة الوطن البديل، التي تعمل عليها دولة الاحتلال.
رابعاً، اتخاذ الإجراءات الضرورية لمقاطعة الشركات العاملة في المستوطنات الإسرائيلية، التي نصّت محكمة العدل الدولية، على عدم قانونيتها أو شرعيتها، تأكيداً لقرارات الشرعية الدولية.
خامساً، وضع المنظمات والميليشيات والمجموعات الإسرائيلية المتطرفة، على قوائم الإرهاب في الدول العربية، والإعلان عن قائمة العار لشخصيات إسرائيلية منخرطة في حرب الإبادة الجماعية والتجويع، وانتهاك القوانين الدولية والإنسانية بما يمهّد الطريق لاتخاذ إجراءات قانونية بحقها.
واضح أنّ هذه القرارات بلغة جديدة، ذات أبعاد عملية، قبل انعقاد الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، تشكل حاصنة عربية للموقف الفلسطيني الذي لم يعد وحيداً في مواجهة دولة الاحتلال وتحالفها الدولي.
إذا كانت هذه القرارات، على درجة من الأهمية، فإنّها تشكل بداية انتفاضة عربية سياسية، ومؤشّراً على إمكانية التمرّد على سياسة الولايات المتحدة الأميركية التي لا بدّ أنّ بعض العرب قد أدركوا أنّها مسؤولة عن تقويض الاستقرار والسلم في المنطقة.
ولكن كان على العرب، الذين «طبّعوا» علاقاتهم بالدولة العبرية، أن يتخذوا إجراءات أكثر جرأة، حيث تفترض مؤشّرات بيان وزراء الخارجية العرب، أنّهم مُقدِمُون على مرحلة جديدة تستدعي قطع العلاقات مع إسرائيل، ولو من خلال سحب السفراء كخطوة أولى، ولعلّ الأهمّ هو أن يقابل الفلسطينيون ذلك التطوّر، بخطوات عملية نحو إعادة ترميم وتوحيد النظام السياسي الفلسطيني.